
محمد عسيلة
كمتخصص في العلاقات الإنسانية في السياق الهجروي، لطالما أثار فضولي موضوع مغاربة العالم الذين يعيشون في الشتات، وما يواجهونه من صراعات نفسية واجتماعية، خاصة عند اتخاذ قرار العودة إلى الوطن. في لقاءات مختلفة، استمعت إلى شهادات مؤلمة لأشخاص عادوا إلى المغرب بعد سنوات من الغربة، ليجدوا أنفسهم غرباء وسط عائلاتهم، وكأنهم دخلوا إلى عالم لم يعد كما كان. بعضهم تحدث عن خيبات أمل غير متوقعة، عن صراعات على الإرث، عن علاقات باردة، وأحيانًا عن استغلال عاطفي ومادي من أقرب الناس إليهم. فهل الشتات مجرد مسافة جغرافية، أم أنه أصبح نمطًا نفسيًا يرافق المهاجر حتى وهو في وسط أهله؟
إن الهجرة تجربة عميقة تتجاوز مجرد التنقل من بلد إلى آخر، فهي إعادة تشكيل للهوية، وصراع داخلي بين الانتماء للوطن الأم والتكيف مع المجتمع الجديد. المهاجر يجد نفسه مضطرًا للتأقلم مع ثقافة مختلفة، فيتعلم لغة جديدة، يكتسب عادات مختلفة، ويبني منظومة قيمية متأثرة بمحيطه الجديد. ومع مرور السنوات، قد لا يعود ذاك “المغربي” الذي غادر الوطن، بل يصبح خليطًا ثقافيًا يحمل معه رواسب التجربة الغربية، سواء في طريقة التفكير، أو في نمط العلاقات، أو حتى في طريقة التعبير عن المشاعر.
وعندما يقرر العودة، يعود حاملاً معه تصورًا رومانسيًا عن الوطن، عن الدفء العائلي، عن الأصدقاء القدامى، عن الذكريات التي بقيت كما هي في ذهنه. لكنه يُفاجأ بواقع مغاير؛ العائلة تغيرت، الأولويات اختلفت، والمجتمع نفسه لم يعد كما كان. فجأة يجد نفسه محاطًا بأقارب يعاملونه كـ “البنك المتنقل”، أو كالشخص “المحظوظ” الذي عاش في الخارج، بينما هو في الحقيقة يحمل داخله صراعات وتناقضات لا يفهمها أحد. بعضهم يُتهم بالغرور لأنه لم يعد يشبههم في طريقة التفكير، وبعضهم يعاني من عزلة نفسية لأنه لم يعد يجد لنفسه مكانًا داخل العائلة التي افترض أنه سيعود ليكون جزءًا منها.
هذا الاغتراب النفسي لا يقتصر فقط على العائدين من المهجر، بل يمتد ليشمل الأجيال الجديدة التي وُلدت وترعرعت في الخارج. هؤلاء الشباب يجدون أنفسهم أمام معضلة هوية معقدة: هل هم مغاربة بالكامل؟ أم أنهم أوروبيون أو أمريكيون بروح مغربية؟ عند زيارة المغرب، قد يشعرون بأنهم “أجانب” لأنهم لا يتحدثون الدارجة بطلاقة، أو لأنهم لا يفهمون بعض العادات الاجتماعية، فيشعرون بنوع من الإقصاء العاطفي والثقافي. وإذا استمعوا إلى روايات آبائهم عن الخيبات التي واجهوها عند العودة، فقد يتشكل لديهم نفور غير معلن من فكرة العودة إلى الوطن نهائيًا.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل المشكلة في المهاجر الذي تغير، أم في العائلة التي لم تتغير؟ هل المغاربة في المهجر هم الذين فقدوا الإحساس بالعائلة، أم أن العائلة نفسها لم تستطع التأقلم مع التحولات النفسية والاجتماعية التي مر بها أفرادها؟ لماذا تتحول بعض العلاقات الأسرية إلى مصدر ضغط وصراع بدل أن تكون ملجأً للأمان والدفء؟
من منظور أخلاقي، لا يمكن إنكار أن العلاقات الأسرية يجب أن تقوم على مبادئ الاحترام، التضامن، والتفاهم المتبادل. على العائد من المهجر أن يدرك أن عائلته لم تعش نفس تجربته، وأن اختلاف القيم ليس خيانة للوطن، بل هو نتيجة طبيعية لاختلاف البيئات. في المقابل، يجب على العائلة أن تتوقف عن معاملة المهاجر كآلة لجلب المال، أو كغريب يجب أن يتأقلم معهم دون أن يتوقع منهم تفهم تجربته. الحل لا يكمن في لوم طرف دون الآخر، بل في البحث عن طرق جديدة لتعزيز الحوار بين الأجيال، وإيجاد نقطة التقاء بين التجارب المختلفة.
من منظور علم النفس المجتمعي، يمكن فهم هذه الظاهرة على أنها نتيجة لصدام بين الهويات الثقافية والقيم الاجتماعية المختلفة، حيث يجد المهاجر نفسه في حالة من الانفصال النفسي والاجتماعي عن بيئته الأصلية، لكنه في الوقت ذاته لا يشعر بالاندماج الكامل في مجتمع المهجر. هذه الازدواجية تخلق ما يعرف في علم النفس بظاهرة “الهوية المزدوجة”، حيث يعيش الفرد حالة من الاغتراب العاطفي بين عالمين، دون أن ينتمي بشكل كامل لأي منهما. عندما يعود إلى وطنه، يواجه ما يسمى بـ “الصدمة العكسية”، حيث يشعر وكأنه شخص غريب داخل مجتمعه الأصلي، رغم أنه المكان الذي يفترض أن يكون فيه أكثر شعورًا بالأمان والانتماء.
هذه التحديات النفسية لا تؤثر فقط على الأفراد، بل تمتد إلى النسيج الاجتماعي ككل، حيث يؤدي غياب الوعي المجتمعي بهذه التغيرات إلى تفاقم الصراعات العائلية، وسوء الفهم بين الأجيال، وتصاعد مشاعر الإحباط والخذلان. الحل لا يكمن فقط في التكيف الفردي، بل في خلق بيئة مجتمعية داعمة تعترف بتعقيد تجربة الهجرة، وتعمل على تعزيز الحوار والتفاهم بين المهاجرين وعائلاتهم. فالمجتمع الذي لا يستوعب تحولات أفراده يظل حبيس نزاعات داخلية لا تنتهي، بينما المجتمعات القادرة على احتضان التنوع داخلها هي التي تبني جسورًا أكثر تماسكًا بين ماضيها ومستقبلها.
يبقى السؤال معلقًا ومفتوحا على كل المهتمين والباحثين: هل فقدت العائلة المغربية معناها بالنسبة لمغاربة الشتات؟ أم أننا بحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الوطن والمهاجر، بحيث لا تكون مبنية فقط على الحنين، بل على فهم حقيقي للتحولات التي يمر بها كلا الطرفين؟
ـــــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23625