17 مارس 2025 / 14:02

معالم التصوف المغربي تحت مجهر الباحث عبد الإله لغزاوي

منتصر حمادة
هذا كتاب مرجعي في تناول التصوف المغربي، ويساعد القارئ على الظفر ببعض الأجوبة بخصوص وصف المغرب بأنه “بلد الأولياء”. والكتاب من تأليف باحث متخصص في الثقافة الشعبية، ولو أنه يتطرق لمعالم الظاهرة في مدينة مكناس ـ “العاصمة الإسماعيلية”، إلا أن تأمل مضامين الكتاب، وإسقاطها على مجمل التراب المغربي، نحسبُ أنه يوجز أشياء كثيرة على طبيعة التديّن السائد طيلة قرون في المجال المغربي.

نحن في ضيافة كتاب قيّم للغاية، ألفه الباحث عبد الإله لغزاوي، وجاء تحت عنوان: “مونوغرافية المقدس بمدينة مكناس: مقاربة لظاهرة الأولياء في تجلياتها الثقافية والأدبية ودراسة آليات اشتغال الكتابة”، (الجزء 1 و2)، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، مع التذكير أن مؤلف الكتاب، الباحث عبد الإله لغزاوي، صدرت له مجموعة من الدراسات تتناول على الخصوص الثقافة الشعبية والتصوف والزوايا والبيئة والملحون والعمران.

يروم العمل، استقصاء الوظائف الحيوية لأولياء مكناس بوصفهم فاعلين ديناميين في الحياة الاجتماعية والفنية والأدبية والثقافية والعمرانية، بسلوكياتهم وكتاباتهم التي جعلت ظاهرة الولاية ذات حضور مركزي في مختلف مراحل تاريخ المغرب، وبالتحديد من الفترة الممتدة بين القرن السادس والقرن الرابع عشر للهجرة، بما يُفيد أننا إزاء عمل مختلف عن دراسات استشراقية سابقة، وصادرة عن مجموعة من الأسماء الغربية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، روني برونيل وهنري دوكاستري وألفريد بيل وبيري ودي بريمار، ويتقاطع العمل أو يختلف مع أعمال مجموعة من الباحثين المغاربة، من التراثيين أو المعاصرين؛ ففي باب الأسماء المعاصرة، نذكر على الخصوص عبد الواحد الهاروني وعبد اللطيف الشاذلي وأحمد الوارث وغيرهم.

يشتغل العمل على “الوظائف الحيوية لأولياء مكناس، ورصد مدى تأثيرهم العميق في الحياة الاجتماعية والفنية والأدبية والثقافية، وإسهامهم الخلاق في مجال الكتابة، للتأكيد على أن ظاهرة الولاية صنعت تاريخنا، وموشومة في ذاكرتنا، ومستمرة في حياتنا، ولها حضور مشع في راهننا، رغم ما يحيط بنا من تيارات مادية مناوئة للظواهر الروحية، ومن ثمة فإن المقدس الولوي جزء من كينونتنا، وعربون حضارتنا ووجودنا”، (ص 9) ويضيف في تمهيد الكتاب، وهو في الأصل أطروحة جامعية ومرجعية حول عمل أهل المقدس من خلال تناول ظاهرة الأولياء، أن المدينة المعنية، “عرفت جملة وافرة من الأولياء الصالحين الذين شكلوا جزءا هاماً من مظاهرها القدسية وحملوا المشعل الإصلاحي والثقافي، وملأوا الفراغ الروحي والعلمي”، (ص 10) مؤكداً أنه يروم من خلال إصدار هذه الموسوعة المساهمة في “رد الاعتبار لتراثنا الديني، ورصيدنا القدسي الذي كان على الدوام فاعلا في حضارتنا، وموجها لثقافتنا، وضابطا لسيرورة عاداتنا وتقاليدنا، وتغيير النظرة التبسيطية والتقزيمية التي يختزل إليها الأولياء من طرف البعض”، وأيضاً إثارة “النظر إلى ما تتوفر عليه الفنون القدسية (أضرحة/ قباب/ تأثيث/ زخارف..) من أبعاد جمالية، ودلالات رمزية، مع الكشف عن مدى تجاوب الأجناس الأدبية مع أولياء مكناس من خلال توظيفهم في الرواية والمسرح والسينما والشعر والنثر، للتأكيد على حيوية المقدس وفاعليته، واستمراره في الزمان والمكان” (ص 12)، وبَدَهي أن مثل هذه الدراسات، لا نجد لها أي أثر في المنابر الإعلامية التي تنهل من مرجعية سلفية.

وواضح أن الكتاب يكتسي قيمة إبستيمولوجية وثقافية وأدبية وفنية جديرة بالبحث والتحليل، بحكم أن ظاهرة الأولياء بالعاصمة الإسماعيلية تتميز بحيويتها وثرائها، وتنفتح على واجهات متعددة، تحتاج إلى قراءة احترافية تستجلي غموضها وفق منظور محكم، وتصور عميق، نحسبُ أن المؤلف توفق بشكل كبير في تفعيله على أرض الواقع من خلال هذه الموسوعة القيمة.

يتضمن الكتاب أبوابا يسافر بنا عبرها المؤلف، وعلى نحو مونوغرافي، قصد دراسة ظاهرة المقدس مكناس انطلاقاً من تحليل دقيق للحضور المشهود لأولياء هذه المدينة العريق، كالشيخ الكامل الهادي بنعيسى مؤسس الزاوية العيساوية، وسيدي عبد الرحمن المجذوب، وسيدي عبد القادر العلمي.. ناهيك عن أولياء اشتهروا بصلاحهم كسيدي بوزكري، وسيدي أحمد ابن خضراء، وسيدي عمرو الحصيني، ولالة ستي هنو، ولالة عائشة عدوية، وأولياء آخرين ضروباً بسهم وافر في المجال العلمي كشاعر الملحون الفقيه العميري، والفقيه محمد المجاصي، والعلامة محمد البيجري، والعارف بالله محمد بن الحبيب الأمغاري.

اجتهد مؤلف هذا العمل الرصين في إبراز الأهمية التي تكتسيها العاصمة الإسماعيلية في المجال الصوفي سلوكاً وتربيةً وإبداعاً، وإنتاج معرفة خصبة تستجلي هوية الأولياء الذاتية وكراماتهم الصوفية، ووظائفهم المختلفة، مع صياغة خطاب تحليلي يستنكه المقدس في تجلياته الطقوسية والعمرانية والإبداعية، فينكب على مقارنة الزيارة والمعتقدات والقباب والزخرفة والإنارة والأثاث والتحف والخط والموسيقى والإنشاد والرقص والتصوري والتشكيل والسينما والتمثيل والفرجة والشعر والرواية والمسرح.

نسافر مع المؤلف أيضاً في عوالم تجليات المقدس الأنثوي، لأدوار ووظائف التصوف في المجال الثقافي المغربي، من خلال الاشتغال على الوظيفة الدينية والصوفية، الوظيفة الاجتماعية، الوظيفة السياسية والدفاعية، الوظيفة العلمية والثقافية، الزيارة والقصد والطقوس والهبة، المعتقد والتجاذب والاحتفال والموسم، البناء والتجهيز والتأثيث والوقف، الإشراف والتدبير والتوقير والإنعام، كما نقرأ مثلا في عناوين الفصل الثاني (الدور الوظيفة) من الباب الأول (الهوية والوظيفة والتواصل)؛

ونقرأ في عناوين الفصل الثاني (التوجيه الفني)، العناوين التالية: العمارة والزخرفة، الأثاث والتحف، الموسيقى والرقص، التصوير والتمثيل؛ أما في الفصل المخصص للتأثير الأدبي، فنقرأ دراسات حول القول الشعري والخطاب المقالي، القالب النثري، وأخيراً، الإبداع السردي والمسرحي، لتنتهي مواد الجزء الأول من هذه الموسوعة. (جاء الجزء الأول في 686 صفحة).

انصرف الجزء الثاني إلى إنتاج مقاربة شمولية للأعمال الادبية والثقافية التي أبدعها أقطاب الولاية والصلاح بمدينة مكناس بغية الوقوف عند تحليل كمائن الخطاب وإجلاء مكونات الكتابة وآليات اشتغالها، وتحديد أبعادها الدلالية، ومضامينها، وأساليبها التعبيرية، ودرجة تأثيرها في المتلقي، حسب طاقاتها الإبداعية، وجمالية لغتها الفنية، وهكذا نقرأ مثلاً في الفصل الثاني من هذا الجزء العناوين التالية: الخطاب الثقافي والمعرفي، نطلع على المباحث التالية: العلوم الدينية، العلوم التاريخية، العلوم الصوفية.

تضمن الكتاب كذلك أربعة ملاحق، خُصّص الأول لعرض لائحة من النصوص الشعرية والثقافية، وخصّصَ الثاني لعرض الوثائق والظهائر وصور أوائل بعض الكتب، وخُصّص الثالث لعرض الخرائط والرسوم والصور الفتوغرافية التشكيلية، وأخيراً، خُصّصَ الملحق الرابع لاستعراض لائحة أغلب الأولياء المعروفين والمجهولين والمترجم لهم داخل هذه الموسوعة النفيسة.

هذا عرض أولي في عمل قيم ينتصر لمعالم تصوف مغربي أصيل ومتجذر في المجال الثقافي المغربي، ونتحدث عن كتاب جاء موزعاً على 1102 صفحة، (تضمن 55 صفحة مخصصة لعرض لائحة المراجع العمل باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية).