الدكتور مصطفى كرين
أظهرت الأحداث الأخيرة في منطقتنا ، أننا فعلا في أزمة سحيقة ، أزمة تحليل وأزمة مواقف. فبينما كنا ننتظر من الهيئات السياسية والجماعات المسيسة وال” المتخصصين” أن يفككوا لنا ما يقع ، فضل هؤلاء التحلق حول مدفأة البلاغات وحشوها بحطب بلاغي يمتح إما من لغة الستينات والسبعينات وزمن بريجنيف أو يغرق في لغة التكفير والتخوين والتحريض وزمن الاسلامبولي وعبود الزمر وعمر عبد الرحمان.
وببساطة وموضوعية نقول، إن ما وقع في الكركرات وما تلاه من اعتراف من طرف أكبر القوى العظمى بسيادة المغرب على صحرائه ، وقبله اعتراف العديد من الدول الافريقية والعربية واللاتينية وفتح قنصليات لهم بأراضينا الجنوبية ، كل هذه ليست أحداث عادية أو معزولة أو منفصلة عن التأثير الدولي على سياقنا الإقليمي ، بل هي آلة جبارة أطلقت إشارة الإعلان عن دخول عهدٍ جديد ، عهد يصبح فيه المغرب ، نقطة محورية في النظام العالمي الجديد وعبر المغرب تتم عملية إدماج القارة الأفريقية برمتها في هذا النظام.
وأهم ما في هذا النظام العالمي الجديد هو التعددية القطبية، بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين كعناوين رئيسية وأحلاف من دول أخرى تسير في ركب هذا القطب أو ذاك ، ولذلك فإن مسارعة الولايات المتحدة للاعتراف بالمغرب ، والتي جاءت أساسا بعد الإشارات التي أطلقها المغرب من خلال التعبير عن استعداده لإحياء الشراكات الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا ، ليست سوى مدخلا للاستقرار بجوارنا وبين ظهرانينا في إطار حرب المواقع التي تخوضها بضراوة أمريكا مع الصين ، وعين أمريكا على إفريقيا عموما وليس فقط على شمالها.
للأسف، وعوض التفكير بطريقة كونية شمولية، فإن أقصى ما وصلت إليه إبداعات سياسيينا ونقابيينا ووزرائنا ومثقفينا هو اختزال كل ما يقع في خيار الاصطفاف “مع أو ضد ” التطبيع ، والواقع أن مسألة وترتيبات التطبيع تجاوزت بمسافة بعيدة هذا السؤال السطحي والسلبي في نفس الوقت ” مع أو ضد ” ، وانتقلت بسرعة الضوء وبفضل ما تتوفر عليه من إستراتيجيات واستراتيجيين إلى ما بعد التطبيع بعقود، ويظهر ذلك جليا من خلال هذه الترسانة من المشاريع والرؤى المتدفقة وبشكل جنوني وفي كل ميادين ومجالات الفعل والحركة ، بحيث أضحى واضحاً بأننا أمام سيناريوهات كانت موجودة ومرتبة وآن أوانها ، هذه المشاريع ستدشن تاريخا جديدا لكل المنطقة والعالم.
أمريكا إذا تحط الرحال بالمغرب وعينها على إفريقيا، وهدفها الحد من الاكتساح الصيني للقارة ، بينما تقتضي مصلحة المغرب بناء علاقات جيدة ومثمرة مع العملاقين بما يجعلنا جزءً أساسيًا من معادلات عالم الغد.
ويتأكد هذا التوجه الأمريكي للتصعيد الاقتصادي والاستراتيجي ضد الصين أساسا وروسيا بدرجة أقل، بتزكية ضمنية أكيدة من الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لتعزيز موقفه في صراعه مع تركيا، من خلال شيئين أساسيين:
أما أولهما فهو استعداد الولايات المتحدة لبناء قاعدة عسكرية كبرى في الأقاليم الجنوبية بما يجعلها قادرة على مراقبة مجال جغرافي شاسع شمالا وجنوباً وشرقاً وممارسة ضغط سياسي وعسكري مباشر على رؤساء وأنظمة الدول الأفريقية المرشحة لتكون منافذ للاختراق الصيني ، ومن نافلة القول هنا الإشارة إلى ما يعنيه ذلك من تدليل على نهاية النفوذ الفرنسي في القارة، حيث سيصبح انطلاقا من اليوم الدور الفرنسي ثانويا وتابعاً بعد فشلها في كل من ليبيا ومالي وركونها أمام تركيا في البحر الأبيض المتوسط ، وإن كانت أمريكا ستجد نفسها بسبب ذلك مضطرة للدخول في صراع مباشر مع جيوب الإرهاب والتطرف.
وثانيهما يتعلق بالتصريح الأمريكي المتعلق بمخطط تحويل مدينة الداخلة إلى “مركز للتجارة في إفريقيا والشرق الأوسط ” وفي ذلك أيضا إشارة وإحالة على الصراع التجاري الأمريكي الصيني ، وإن كان هذا الأمر في تصوري وقراءتي لن يعجز الصينيين الذين أثبتوا تفوقهم تجاريا على الولايات المتحدة حتى في عقر دارها كما تفوقوا عليها في مختلف مناطق نفوذها التجاري عبر العالم.
واعتبارا لكون هذا الإنزال الأمريكي المعلن في أفريقيا يندرج في سياق خيارات اقتصادية وجيوسياسية دقيقة ومستعجلة، فإنني أظن أن قرار الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء مثله مثل خيار الدفع في اتجاه التطبيع بين المغرب وإسرائيل هما قراران متفق عليهما ليس فقط في أمريكا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي ، بل أتجاوز ذلك للقول بأنه قرار متفق عليه داخل الدولة العميقة في الولايات المتحدة، بل حتى بين حلفاء الولايات المتحدة من دول غربية وعربية ، وهو ما سيجعل إمكانية اعتراف دول كبرى تلتحق قريبا بأمريكا لتزكية هذا المسار .
ومن هذا المنطلق يتبين أن المغرب أصبح وسط زوبعة جيوسياسية هائلة تتطلب منه تأهيل نفسه على مستويات عدة حتى لا يتم سحقه بين الجبابرة ، تأهيل نفسه دستوريا ومؤسساتيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا عوض الغوص في ترهات البلاغات والاصطفافات والمزايدات والغزوات اللغوية ” التاريخية”.
فالمغرب مطالب بالاعتكاف على إعادة قراءة مسودة نموذجه التنموي وفق مسلك يتجاوز ثنائيات النموذج الفرنسي، ويبني نموذجا منفتحا وقادرا على استيعاب روافد أخرى هامة جداً وقوية ، والتعاطي مع القادم من التغييرات، ومطالب بمراجعة الدستور لنزع مجموعة من الألغام التي أظهرت عشر سنوات من الممارسة أنها قادرة على إبطاء أو حتى تعطيل مسار المؤسسات ، ومطالب بمراجعة جذرية لترسانته القانونية لملاءمتها مع الفرص من كل نوع التي بدأت تلوح في الأفق، ومطالب بإحداث انقلاب في نظامه التعليمي ، بدءاً بالنقاش اللغوي الذي يجدر به أن يسفر عن تبني اللغة الانجليزية باعتبارها اللغة العالمية الحية بامتياز وإدراج مسلك لدراسة اللغة الصينية التي ستغدو قريبا لغة قوية الانتشار والتأثير، بعدما أصبحت الفرنسية لغة محدودة جدا، بل أصبحت بشكل ما عائقا في وجه الاندماج في سيرورة التحولات العلمية والتقنية المقبلة التي أضحت تحدد قوة ومصير الشعوب، كما أن المغرب مطالب بالسير بسرعة كبيرة في تأهيل أنظمة الحماية الاجتماعية التي لا يمكن أن يقوم اقتصاد قوي بدونها.
وبالإضافة لكل ما سبق فإن النجاح في دخول المرحلة المقبلة من التاريخ يتطلب اتخاذ كذلك العديد من الإجراءات على المستويات الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية لملاءمة هياكل البلاد مع الفكر التعددي والمنفتح ونبذ فكر الانغلاق والإقصاء، ومن أهم هذه الإجراءات:
– إعادة ترتيب المشهد الحزبي وتنقيته من هذه ” الكائنات السياسية ” التي تجاوزها التاريخ والأحداث وأصبحت بنيات معرقلة للتطور.
– إعادة تحديد أدوار الحركات والمؤسسات الدينية الإسلامية منها وغير الإسلامية ورفع يدها عن الشأن الفردي والجماعي للمغاربة وتكريس الدور المرجعي والتوجيهي لمؤسسة إمارة المؤمنين.
– أما اقتصاديا فإنه يجدر بنا إحياء مشروع الربط بين القاري بين أفريقيا وأوروبا عبر معبر طنجة – طريفة من خلال دعم الأبحاث الهندسية وإيجاد مصادر التمويل.
– وتزويد المغرب بحزام من المطارات المؤهلة لمسايرة هذا الانفتاح وهذه الدينامية ، مطارات تراعي الحاجيات التجارية والسياحية للمغرب كمعبر أساسي مستقبلا لتبادل السلع وحركة الناس.
– وتعزيز شبكة الطرق السيارة داخليا وطرح مشاريع الربط بين المغرب والدول الأفريقية.
– وأخيرا في نفس إطار ومسعى تعزيز الانفتاح والتلاقي بين المغاربة وباقي حضارات وشعوب العالم ، تعتبر الدينامية الجديدة فرصة هامة للمغرب من أجل العودة للترشح من أجل تنظيم كأس العالم لكرة القدم ، لما في ذلك من قوة دفع هائلة لإنجاز المشاريع ومنافع اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية أكيدة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=12715