مسلمو فرنسا بين مطرقة العلمانوية وسندان التطرف الديني.
ذ. محمد المهدي اقرابش
عضو أكاديمية نيم الفرنسية وعضو منتدى الإسلام بفرنسا.
عضو مؤسس للجامعة الشعبية للأديان بنيم الفرنسية.
مسلمو فرنسا بين مطرقة العلمانوية و سندان التطرف الديني.
تحتفل الأوساط السياسية والثقافية الفرنسية بالذكرى المائة والعشرين للعلمانية او اللائكية. لقد صدر هذا المبدأ القانوني سنة 1905 بعد صراع دموي مرير بين الكنيسة الكاثوليكية المتسلطة وشرائح المجتمع الغير كاثوليكية خاصة البروتستانتيين واليهود وغيرهم من الطوائف.
يسعى قانون 1905 إلى الفصل بين الدولة والكنائس, أو بمعنى آخر الفصل بين الدولة والدين, لضمان حرية المعتقد والممارسة الدينية في المجتمع مع الحفاظ على النظام العام. وهذا أمر طبيعي بعد أن عانى المجتمع من تسلط الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى و نظرا لتعدد الأديان والملل والتوجهات الفلسفية والفكرية في البلد الواحد. لقد عاش الفرنسيون صراعا دمويا بين الكاثوليك والبروتستانت منذ إلغاء مرسوم نانت Édit de Nantes لسنة 1685 بمرسوم ملكي آخر -تحت حكم لويس الرابع عشر- والذي لايقبل إلا بالكاثوليكية كدين.
أتاح مرسوم نانت Édit de Nantes- الذي أصدره هنري الرابع ملك فرنسا عام 1598 للبروتستانت في مملكة فرنسا حرية العقيدة والعبادة. ويُعُدُّ هذا المرسوم من أبرز الوثائق التي تؤشر على بدء عصر النهضة الأوروبية واحترام حقوق الإنسان وجعل الإنسان محور الفكر الأوروبي.
تضمن العلمانية -أو بالأحرى اللائكية – فلسفيا وقانونيا حياد مؤسسات الدولة الديني والسياسي في تعاملها مع المواطنين. فهي لا تسعى إلى حذف الدين من المجتمع او الفضاء العام.كما لا تسمح بتسلط دين على دين كما كان الشأن بالنسبة للكاثوليكية التي نكلت بالبروستنتانتيين والملل الأخرى.و لطالما لُقِّبَتْ فرنسا تاريخيا ببنت الكنيسة لدفاعها عن الكاثوليكية في العالم. ان اللائكية هي نتيجة للثورة الفرنسية التي تبنت الإعلان لحقوق الإنسان والمواطن الفرنسي سنة 1789 ميلادية بإيعاز وتشجيع من فلاسفة الأنوار المنحذرين من الثقافة الكاثوليكية و البروتستانتية والماسونية أيضا. بل إن إرهاصاتها الفلسفية جاءت مع الفيلسوف الفقيه ابن رشد الحفيد الذي أعلى قيمة الحكمة أي الفلسفة والعقل واعتبرها غير مضادة للدين، خاصة في فتواه الشهيرة “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال”. ثم تبعه في ذلك واقتدى به المفكرون الأوروبيون. فانقسمت النخبة في القرن الثاني عشر ميلادي إلى طائفتين متناظرتين: الرشديين Averroïstes والمناوئين للرشدية Anti-averroïsme فكان هذا سبباً في نهضتهم وتقدمهم.
كانت الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت طاحنة، سالت بسببها أودية من الدماء. إن شواهد التاريخ كثيرة عندنا حسب ما عاينته في منطقتنا بجنوب فرنسا في افينيون ومونبلييه ونيم و إيج مورت و مناطق لي-سيڤين.
و لقد نافح الفيلسوف ڤولتير في كتابه الشهير رسالة في التسامح (Traité sur la tolérance 1763) عن حرية الاعتقاد وقبول الآخر مستندا إلى تجربة المسلمين في هذا المجال. فجاءت اللائكية بعده بمراحل لتضع حدا للاقتتال بسبب الاختلاف في الدين.
و لا تزال رواسب هذه التوترات تظهر وتطفو بين الحين والآخر في العلاقات والحوارات السياسية و الاجتماعية والثقافية الفرنسية خاصة إذا تعلق الأمر بالأديان.
يفسر هذا التاريخ الأسود تحفظ الفرنسيين ورفضهم لكل ماهو ديني، لأن المنظومة القيمية التي يستحضرها الفرنسيون في علاقاتهم هي عصر الأنوار و الحرية والاستقلالية الفكرية والفلسفية عن الكنيسة.
و يغفل كثير من المثقفين الفرنسيين وغيرهم مسألة أن فلاسفة الأنوار أنفسهم كانوا متدينين أو على الأقل مقرين بأهمية التدين في حياة الإنسان. أذكر على سبيل المثال مونتيسكيو وفولتير وروسو وسبينوزا وليبنيز وغيرهم.
لقد أقر كثير من هؤلاء الفلاسفة بتسامح الإسلام و المسلمين بالمقارنة مع الكنيسة الكاثوليكية التي لا تقبل إلا بدينها وتدعي سعيها لإنقاذ الآخر الضال بالإجبار والقوة وبالحديد والنار.
إننا نشهد في واقعنا المعاصر محاولات حثيثة من بعض القوى لتحويل العلمانية المعتدلة laïcité إلى علمانوية متطرفة laïcisme تعادي الدين الإسلامي وترفضه وتحاول إقصاءه من المجتمع خاصة بعد الأحداث الارهابية التي وقعت سنة 2015.
لقد أحدثت هذه الهجمات تصدعا في المجتمع الفرنسي فصار قسم من الفرنسيين ينظرون إلى المسلمين بعين الشك والريبة. بل ويعتبرونهم طابورا خامسا يهدد تماسك المجتمع وقيمه متناسين بذلك قيم الحرية والمساواة والإخاء و مهملين في الوقت نفسه عامِلَيْنِ أساسيين لتفسير العنف والتطرف والإرهاب وهما:
البعد الجيو سياسي الدولي و الأزمة الهوياتية الفرنسية.
فالإرهاب هو نتيجة لسياسات غربية في البلدان العربية و الإسلامية و نتيجة لتخلف حضاري للعرب والمسلمين في احتكاكهم بالحداثة الغربية وما بعد الحداثة بعد ان كانوا رواد علم وتقدم وإبداع.
إن المسلم الحق مسالم بالضرورة وفقا لمبادئ الدين الحنيف لأن الدين فطرت الله التي فطر الناس عليها.
إن الحركات الإيديولوجية المتطرفة والتي تنسب نفسها إلى الإسلام هي نتاج سياسات غربية في العالم العربي والإسلامي كما حدث في ايران والعراق وافغانستان وغيرها من البلدان.
فالدراسات الجيوسياسية والاستراتيجية حافلة بالدلائل التي تصب في هذا الاتجاه التفسيري. أخص بالذكر كتابات المفكر محمد عابد الجابري في نقده للسياسات الغربية التي جنحت إلى فكر برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وفرنسيس فوكوياما وغيرهم من الذين يرون أن الشرق شرق والغرب غرب.
إن التوتر الذي يشهده انتماء المسلمين إلى المواطنة الفرنسية راجع إلى عاملين اثنين:
أولهما: النظرة الاستعلائية الناتجة عن الاحتلال الفرنسي للدول الأفريقية خاصة الجزائر. هذه الأخيرة التي يعتبرها الفرنسيون عدوا وخصما خاصة من يسمون بالأقدام السود أو الأحذية العسكرية السوداء pieds-noirs. أعني الفرنسيين الذين ولدوا ونشأوا واستعمروا وسكنوا الجزائر منذ احتلالها سنة 1830 ميلادية. و كراهيتهم هذه مردها إلى أنهم أُخْرِجوا منها بعد قرن وثلاثين سنة ونيف من الاحتلال، وقد كانت موطنهم و جزءا من الجمهورية الفرنسية في نظرهم.
لهذا لا يحبون ولا يكنون الود لشارل دوغول فكان نتيجة ذلك أن أنشأ الفرنسي جون ماري لوبين حزبا يمينيا متطرفا وعنصريا أسماه حزب الجبهة الوطنية، ثم تغير اسمه إلى التجمع الوطني بسبب ابنته مارين لوبين. صار الحزب مقبولا لدى الفرنسيين بسبب جهود مارين لوبين في تلميعه لدى الفرنسيين بل قد صار متحكما في المشهد الحزبي والمعادلات السياسية بفرنسا.
أشارت استطلاعات رأي ودراسات إلى السير الحثيث لحزب التجمع الوطني نحو رئاسة الجمهورية الفرنسية لسنة 2027.
وثانيهما: التمايز والتباين الديني والثقافي بين المسيحيين والمسلمين وما اصطحب ذهنيا من صراعات وحروب طاحنة دامت لقرون خلت.
يمنح الدستور الفرنسي نظريا وعمليا حق المواطنة لكل الفرنسيين بغض النظر عن الدين أو اللون أوالعرق. ولكن ثقافيا واجتماعيا لازال المخيال العام و اللاوعي يستحضران الحروب الصليبية والاحتلال الفرنسي لبلدان المسلمين. هذا إلى جانب تاثير الاستشراق الاستعماري الذي فسر وأَوَّل الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية وفق رؤية تبشيرية مسيحية و كنسية.
تشير المادة الأولى من قانون 1905 إلى أن الدولة لا تعترف بدين. أي لا تنظر إلى دين المواطن ولكن لا تتجاهله في الوقت نفسه لان أثره واضح على المجتمع. كما لا تمول أي دين تجنبا لانحياز الدولة إلى فئة دينية دون أخرى ولأن الموظفين العموميين ومؤسسات الدولة ملزمون بالحياد دينيا وسياسيا في التعامل مع المواطنين.
إن هذه اللائكية مناسبة للتربة والثقافة الفرنسية والغربية للأسباب التاريخية التي ذكرت أعلاه. أما في الثقافة الإسلامية فان قول الله تعالى “لا إكراه في الدين” الآية 256 سورة البقرة. وقوله سبحانه “لكم دينكم ولي دين” الآية 6 سورة الكافرون. وغيرها من الآيات. وكذلك السيرة النبوية الشريفة قد قطعت السبيل امام أي تسلط أو ظلم ضد حرية الاعتقاد بشرط الحفاظ على النظام العام والتقيد بالقوانين المعمول بها في البلد والذي ينجم عن عقد اجتماعي واضح ومتكافئ. فمثلا الدستور المغربي يضمن حرية المعتقد والحق ان هذه الحرية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار النظام العام وقوانين البلد. لأن الذهنية العامة لها أثر على تطبيق هذا المبدأ. إن إمارة المؤمنين هي الضامن الوحيد لحرية المعتقد واحترام الأديان والثقافات. فهي تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية. أما باقي المؤسسات فليس لها أن تستخدم الدين لأجل أهداف أيديولوجية أو سياسية.
شخصيا وفي السياق الفرنسي، أفضل في لقاءاتي استعمال كلمة اللائكية بدل العلمانية -ولا مشاحة في الاصطلاح-لأن العلمانية قد صار لها دلالة قدحية في أوساط المثقفين العرب و عموم الشعوب العربية والإسلامية. فهي تعني خطأً في العرف السائد، مناصبة الدولة العداء للدين وهذا غير صحيح.
إن بعض الممارسات الغير مقبولة من بعض المسلمين في المجتمع الفرنسي تكرس هذه النظرة الدونية والعدائية ضد كل ماهو ديني! كالحرص مثلا على بعض السلوكات المتطرفة والتي لا علاقة لها بالإسلام كالصلاة على قارعة الطريق مثلا! أو التشدد عن جهل في بعض الأمور الفرعية في الدين! والتي وجد لها الفقهاء مسلكا وأجوبة مراعية للمصلحة من جهة وموافقة للشرع الحنيف من جهة أخرى.
وهناك سبب آخر لا يقل فداحة وهو الخلط بين ايديولوجية الإخوان الفاسدة وغيرها من الحركات التي تتسربل بلباس الإسلام والدفاع عن حقوق المواطنة وحقوق الإنسان تنظيما وفكرا. لذلك لجأ المشرع الفرنسي إلى ترسانة من القوانين تحارب مايسمى بالانفصالية أو محاولات التسلل إلى المؤسسات و الدوائر السياسية والثقافية للتمكين للإيديولوجية الإسلاموية.
أما على مستوى الرأي العام الفرنسي فللأسف يتم في كثير من الأحيان الخلط بين الحق المشروع في التدين والأيديولوجية الاسلاموية. هذا اللبس أو الخلط راجع إلى عدم التمكن من التفريق بين ماهو ديني وثقافي من جهة وبين ماهو ديني وأيديولوجي من جهة أخرى. فتصدر تصريحات ومقترحات عنصرية فيها كراهية معادية للمسلمين والعرب، ومخالفة للعلمانية أو اللائكية التي تعترف بحق الاعتقاد والتدين.
وختاما أقول إنه من الواجب على المسلمين أيضا ان يحسنوا صورتهم أمام مواطنيهم في الغرب عن طريق القول الطيب والعمل الصالح. فالسجون مثلا بها نسبة لا يستهان بها من أبناء المسلمين الذين أخفقوا اجتماعياً وثقافيا بسبب سياسات غير موفقة وبسبب عجز الآباء والأمهات في تأطيرهم وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها. ولولا النخبة المسلمة التي نجحت ووصلت إلى ارقى المناصب العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لقلنا باستحالة اندماج المسلمين في الغرب.
إن دولة المؤسسات والقانون كفيلة بحماية حقوق وكرامة جميع المواطنين. هذا إن حافظ القوم عليها بمبادئها وقيمها المقررة منذ قرون خلت. أما الدين الإسلامي فما كان ولن يكون أبدا معول هدم وتخريب وإنما هو عنوان تسامح وعدل وسلام.
قال الله تعالى “ياأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة” الآية 208 سورة البقرة
والدفع والدفاع سنة الله في خلقه. قال الله تعالى: ” ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا” الآية 40 سورة الحج
“ولله الامر من قبل ومن بعد”. الآية 4 سورة الروم.
التعليقات