دين بريس
يعود الوجود الإسلامي في البرازيل إلى قرون مضت، حين جُلب مئات الآلاف من الأفارقة المستعبدين من مناطق غرب إفريقيا، وكان بينهم عدد كبير من المسلمين الذين حملوا معهم تعاليم دينهم وتقاليدهم.
وبرغم القمع الذي تعرضوا له، فقد نجحوا في الحفاظ على جزء من هويتهم، وتركوا بصمتهم في التاريخ من خلال ثورة “المالي” عام 1835 في مدينة سلفادور بولاية باهيا، التي عُدت واحدة من أبرز حركات التمرد في تاريخ العبودية.
ومع انتهاء تلك المرحلة، تراجع أثر الإسلام في البلاد، لكنه عاد للظهور من جديد مع موجات الهجرة العربية القادمة من لبنان وسوريا وفلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث استقر المهاجرون في المدن الكبرى، وعلى رأسها ساو باولو، وأسّسوا بمرور الوقت نواة للجالية المسلمة الحديثة.
شهد منتصف القرن العشرين نقلة نوعية بإنشاء أول مسجد رسمي في ساو باولو سنة 1952، وهو “مسجد البرازيل”، الذي تحول إلى رمز ديني وثقافي للجالية. ومنذ ذلك التاريخ أخذ عدد المساجد والمراكز الإسلامية في التزايد حتى تجاوز المئة والخمسين، فضلاً عن المدارس والمراكز الثقافية التي تساهم في تعليم اللغة العربية والدروس الدينية ونشر المعرفة بالإسلام بين الأجيال الجديدة.
ومع ذلك، تبقى الإحصاءات الرسمية بشأن عدد المسلمين محل جدل واسع؛ فالتعداد السكاني لعام 2010 قدّرهم بنحو خمسة وثلاثين ألفاً فقط، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أن عددهم يتراوح بين مئتي ألف ومليون نسمة، ويرجع هذا التباين إلى غياب إحصاءات دقيقة وإلى أن الإسلام ينتشر في البرازيل أكثر عبر اعتناق السكان المحليين له من خلال التحول الفردي، وليس فقط عبر الهجرة.
ويُلاحظ اليوم أن واحدة من أبرز سمات الإسلام في البرازيل هي تزايد أعداد المهتدين الجدد، إذ تؤكد دراسات مختلفة أن ما بين 40 و50% من المسلمين في بعض المدن الكبرى هم من البرازيليين الذين اعتنقوا الإسلام.
واللافت أن نسبة كبيرة منهم من النساء اللواتي وجدن في الإسلام إجابة عن تساؤلات روحية ووجودية. وقد ساهمت الترجمات البرتغالية للقرآن الكريم، والأنشطة الدعوية بلغة المجتمع المحلي، في تعزيز هذا التحول، وجعلت الإسلام أكثر قرباً من الناس.
لكن هذا الحضور المتنامي لا يخلو من تحديات، لعل أبرزها ضعف الكوادر الدينية المؤهلة محلياً، وغياب قيادة موحدة للجالية، إضافة إلى صعوبة الحصول على المنتجات الحلال وارتفاع أسعارها، فضلاً عن الحاجة لتطوير مناهج تعليمية ودروس موجهة للأطفال والناشئة تضمن الحفاظ على الهوية الإسلامية مع اندماجهم في المجتمع البرازيلي.
ورغم هذه الصعوبات، فإن المسلمين هناك يعيشون في بيئة اجتماعية أقل عدائية مقارنةً بغيرهم من الأقليات في بعض الدول الأوروبية، إذ تتميز البرازيل بتاريخ طويل من التنوع العرقي والثقافي والديني، وهو ما ساعد على تقبّل المسلمين واندماجهم في المجتمع.
وقد انعكس هذا الاندماج أيضاً على مستوى الاقتصاد والعلاقات الخارجية، حيث أسهمت المؤسسات الإسلامية، مثل “اتحاد المؤسسات الإسلامية في البرازيل”، في توطيد الروابط مع العالم الإسلامي، خاصة عبر تنظيم قطاع تصدير اللحوم الحلال الذي يمثل واحداً من أعمدة التجارة بين البرازيل ودول الخليج وشمال إفريقيا.
وبذلك، فإن الإسلام في البرازيل لا يمثل فقط هوية دينية لأقلية، بل أصبح جزءاً من شبكة تفاعلات اقتصادية وثقافية أوسع.
إن واقع المسلمين في البرازيل اليوم هو حصيلة تاريخ طويل من التضحيات والتطورات، من ذكريات العبيد الأفارقة وثوراتهم، مروراً بالمهاجرين العرب الذين حافظوا على الدين وبنوا مؤسساته، وصولاً إلى جيل جديد من البرازيليين الذين يعتنقون الإسلام عن قناعة.
ورغم التحديات التي تواجه هذا الوجود، فإن آفاق المستقبل تبدو واعدة، إذ يتيح المجتمع البرازيلي المتسامح بيئة مهيأة لتجربة إسلامية متوازنة ومندمجة، يمكن أن تشكل نموذجاً فريداً لأوضاع المسلمين في مجتمعات غير إسلامية.