مسح الرِّجلين حكم القرآن والغَسل اجتهاد نبوي

محمد ابن الأزرق الأنجري
دراسات وبحوث
محمد ابن الأزرق الأنجري14 مارس 2021آخر تحديث : الأحد 14 مارس 2021 - 2:42 مساءً
مسح الرِّجلين حكم القرآن والغَسل اجتهاد نبوي

محمد ابن الأزرق الأنجري
إن غسل الرجلين فضيلة وزيادة على المسح حيث يتضمنه ويزيد عليه، لذلك فالوضوء يكون صحيحا بغسلهما، خلافا للمتشددين من الشيعة والخوارج.
وقد كانت الطهارة للصلاة والحج والعمرة والعبادة عامة سلوكا شائعا مشهورا قبل البعثة النبوية الشريفة، لذلك كان المسلمون يتوضّؤون ويغتسلون منذ فُرِضت الصلاة عليهم.
وكان النبيّ يتولّى التوجيه وتعليم المسلمين كيفية الوضوء والطهارة اجتهادا منه أو إلهاما خارج القرآن، لكنه لم يشرّع لهم شيئا في حال عدم وجود الماء أو العجز عنه فنزل قوله تعالى من سورة النساء في قصّة أم المؤمنين عائشة (ض) يشرّع التيمّم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43).
وكان من هدي النبي عليه السلام أن يأمرهم بغسل الكفين ثم المضمضة والاستنشاق والاستنثار، فغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغَسل الرجلين مع الحثّ على التخليل بين الأصابع وتتبّع الغُضون والشقوق والمواضع الخفيّة، وكان يقول: “أسبغوا الوضوء”، ويقول: “ويل للأعقاب من النار”، ويتحدث عن كون إسباغ الوضوء على المكاره يكفّر الذنوب…
ولأنه عليه السلام مجتهد، كان يمسح حسب الظروف والأحوال على عمامة الرأس، وعلى ملبوس قدميه أي النعلين أو الخفين أو الجوربين.
ثم جاءت سورة المائدة بالرحمة والتخفيف ورفع الضيق والحرج، لأن إسباغ الوضوء كما كان يؤكّد عليه النبي ص فيه بعض الحرج والعنَت، خاصة إتقان غَسل الرجلين المتكرّر الذي من شأنه أن يسبّب تشققات في الجلد، وتجمعَ الفطريات بين الأصابع، ناهيك عن احتياجه لماء كثير نسبيا وجهد عضلي ورشاقة بدنية ورياضة، أما في البرد والأسفار والوظيفة والعمل فإنه قطعة من العذاب، فنصّت المائدة على الاكتفاء بغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس والرّجلين إلى الكعبين، وذلك في الأحوال العادية.
قالت سورة المائدة في الآية السادسة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
إن المسألة شبيهة بقضيّة القِبلة.
كان النبي ص قد وجّههم في مكة إلى البيت الحرام وفي المدينة إلى بيت المقدس اجتهادا، حتى إن مسلمي مكة قبل الهجرة كانوا – وفيهم رسول الله – يصلون إلى البيت الحرام، بينما كان مسلمو المدينة يستقبلون بيت المقدس، وهي القبلة الموحّدة بعد الهجرة، قبل أن يأمر القرآن باستقبال الكعبة المشرّفة وينسخ الاجتهاد النبوي، ذلك أن القرآن لم ينزل من قبل باستقبال جهة من الجهات.
وسورة المائدة معدودة في آخر ما نزل من القرآن الكريم، وأدلّة ذلك مبسوطة في مظانّها، ومنها:
1-عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: «فَإِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ». (مسند أحمد ح25547 ومسند إسحاق بن راهويه (1666) ، وكبرى النسائي (11073) وتفسيره (158) ، ومستدرك الحاكم 2/340، وسنن البيهقي 7/172 وبعض التفاسير كالطبري. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح).
2-وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ «آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتِ سُورَةٍ الْمَائِدَةُ» (سنن الترمذي ح3063 ومستدرك الحاكم 2/340، وحسّنه الترمذي، وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، ووافقه الذهبي).
3-وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ» (صحيح البخاري ح45 و4407 و4606 و7268 وصحيح مسلم (3017))
وهناك روايات كثيرة في أنها نزلت في حجة الوداع السنة العاشرة قبل وفاة رسول الله ص بشهور، تجدها في تفاسير الطبري وابن كثير والدر المنثور للسيوطي.
فلا مجال للاحتجاج بالأحاديث على أن الغَسل هو حكم الرجلين، أو ادعاء نسخها للمسح الوارد في القرآن، لأن السنة لا تنسخ القرآن، بينما هي المنسوخة به، ولأن آية الوضوء متأخرة عن الأحاديث، وإلا فالمسلمون قبلها كانوا يصلون بلا وضوء ولا طهارة، خلافا لما أفادته أحاديث كثيرة يعود بعضها لما قبل الهجرة.
وبالجملة، فالقرآن إنما فيه: (إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
والقراءة بالخفض: (وأرجلِكم) متواترة من السبع.
فما حكم الرجلين حسب اللآية؟
مسح الرجلين هو الحكم الراجح الظاهر من الآية:
سواء قرأنا (وأرجلكم) بالخفض أو النصب، فالآية تحتمل الأمر بالمسح عطفا متتابعا على الرءوس، والأمر بالغسل عطفا متأخرا مقدرا على الوجه واليدين، باعتراف جماعة من المفسرين السنة كما تقدم.
والأمر بالمسح هو المقصود والظاهر والراجح لهذه المرجحات:
المرجح الأول: لا حاجة للتأخير حفظا للترتيب:
يزعم الجمهور أن الأرجل معطوفة على الوجه واليدين، وإنما ذُكرت بعد الرءوس إشارة إلى ضرورة ترتيب أفعال الوضوء وهي: غسل الوجه ثم اليدين ثم مسح الرأس فغسل الرجلين.
والجواب أن الله جلّ جلاله كان بإمكانه أن يستعمل أسلوبا واضحا يحفظ ذاك الترتيب، فيقول مثلا: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، وَاغسلوا أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
أو يقول: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، قبل غسل الرجلين).
فكل ذلك صياغة فصيحة وقواعد معيارية عربية.
ولما عدل الله عن ذلك، وكانت قواعد العربية ترجّح أن العطف يكون على أقرب مذكور، فإن الأرجل معطوفة على الرءوس في المسح لا على اليدين في الغَسل، وهو التأخير الذي تفنن الطبري وابن حزم والآمدي وأبو حيان في إبطاله بقواعد العربية وبيانها، وهم سنّة لا شيعة أو خوارج.
المرجّح الثاني: قراءة الخفض:
قراءة (وأرجلِكم) بالخفض متواترة قرأ بها جماعة من السبعة، وبعض الصحابة وأئمة التابعين قبلهم، وهي قراءة ظاهرة في العطف على الرءوس إعرابا وحكما.
وإذا كان المُجمل المبهم يأخذ حكم المفصّل المفسّر، فإن قراءة النّصب مُجملة مبهمة تفصّلها وتفسّرها قراءة الخفض على أساس أنهما آيتان كما قال جماعة. (انظر مثلا: تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/373)
وإنه لمن العناد والمكابرة الإصرار على أن (وأرجلكم) معطوف على الوجه واليدين مع وجود قراءة الخفض المتواترة.
المرجح الثالث: المساواة بين الرأس والرجلين في التيمم:
أمر القرآن بغسل الوجه واليدين في الوضوء، وبمسحهما في التيمم، فهما في الحكم سواء، ولم يأمر بمسح الرجلين في التيمم، فهو ليس مثلهما في الحكم.
وأمر بمسح الرأس في الوضوء، ثم أسقطه هو والرأس في التيمم، أي أنه جعل حكمهما سواء في التيمم، فحكمهما واحد في الوضوء أيضا، علما أن المسح على الرأس والرجلين بعد الضرب على الصعيد الطيب أمر ميسور لا مشقة فيه ولا حرج.
ولا مجال للمشاغبة هنا – على طريقة بعض الفقهاء – بأن المتيمم من الجنابة يمسح وجهه ويديه فقط، ذلك أن المسح على سائر الجسد متعذّر وحماقة وجنون تنزّه الله عن الأمر به.
وقد تمرّغ بعض الصحابة في الصعيد الطيب تعميما للتيمم على جميع الجسد للجنابة، فضحك النبي عليه السلام من تلك السذاجة المجنونة.
والمرجّح الثالث وارد في كلام أئمة كبار أقدم من الفقهاء الأربعة وأقرب إلى عهد التنزيل، بل وأرفع قدرا، منهم:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «افْتَرَضَ اللَّهُ غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ التَّيَمُّمَ فَجَعَلَ مَكَانَ الْغَسْلَتَيْنِ مَسْحَتَيْنِ وَتَرَكَ الْمَسْحَتَيْنِ». (مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/19)
وعن الشعبي قال: أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم، ما أمر أن يغسل بالماء. وأهمِل ما أمر أن يمسح بالماء. (تفسير الطبري-سورة المائدة)
وفي المحلى بالآثار لابن حزم (1/ 302): وَجَدْنَا الرِّجْلَيْنِ يَسْقُطُ حُكْمُهُمَا فِي التَّيَمُّمِ، كَمَا يَسْقُطُ الرَّأْسُ، فَكَانَ حَمْلُهُمَا عَلَى مَا يَسْقُطَانِ بِسُقُوطِهِ وَيُثْبَتَانِ بِثَبَاتِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى مَا لَا يُثْبَتَانِ بِثَبَاتِهِ.
المرجح الرابع: مساواة النبي بين الرأس والرجلين:
تواتر عن النبي أنه كان يمسح على ملبوس قدميه كالخفين والنعلين والجوربين، وثبت عنه المسح على العمامة والخمار، ورخّص لأصحابه في ذلك:
قال ثَوْبَان ض: ” بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا إِلَيْهِ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَرْدِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ ” (مسند أحمد ح22383، وسنن أبي داود ح146، ومسند الروياني ح642، ومسند الشاميين للطبراني ح477، والمستدرك على الصحيحين للحاكم (1/275) وشرح السنة للبغوي (1/452) والسنن الكبرى للبيهقي (1/102) . وصححه الحاكم والذهبي والألباني والأرنؤوط، وله شواهد، وتكلم فيه بعضهم بما لا يلتفتُ إليه)
والعصائب لباس الرأس، والتساخين لباس الرجل للتدفئة سواء كان من جلد أو غيره.
قال البغوي في شرح السنة: أَصْلُ التَّسَاخِينِ كُلُّ مَا يُسَخِّنُ الْقَدَمَ مِنْ خُفٍّ، وَجَوْرَبٍ، وَنَحْوِهِ.
وفي نيل الأوطار (1/210) للشوكاني: قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَيُقَالُ: أَصْلُ ذَلِكَ كُلُّ مَا يُسَخَّنُ بِهِ الْقَدَمُ مِنْ خُفٍّ وَجَوْرَبٍ وَنَحْوِهِمَا وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَقِيلَ: وَاحِدُهَا تَسْخَانٌ وَتَسْخَنٌ هَكَذَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ.
فتبيّن أن النبي ص جعل الرأس والرجلين متساويين في المسح على ملبوسيهما، فكان ذلك تأكيدا لتساويهما في المسح، وأن الأرجل معطوفة على الرءوس.
ولم يُروَ شيء يفيد المسح على غطاء الوجه كالنقاب واللثام… ولا على غطاء اليدين، فلا تقاس الأرجل عليهما.
المرجح الخامس: مسح الرسول على قدميه:
مسح النبي ص على قدميه أو على النعلين وما ظهر من القدمين، لأن النعلين لا يغطيان القدمين جميعا، فتأكد بفعله أن أمر القرآن هو المسح على فرض تأخر الأحاديث عن آية الوضوء في المائدة.
ونحن نقبل الأحاديث في مجال العبادات حجة إذا كانت مفصّلة للقرآن مبيّنة لا منشئة حكما جديدا لا أساس له في كتاب الله.
ومن الأحاديث الدالة على أن المسح على القدمين هو بيان القرآن:
1-حديث رفاعة بن رافع: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدَهُ، ثُمَّ يَقْرَأَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَتَيَسَّرَ» (سنن أبي داود ح858 وسنن النسائي ح1136 وسنن ابن ماجه ح460 والمنتقى لابن الجارود (ص: 58) وشرح معاني الآثار (1/35) وسنن الدارقطني (1/166) والمستدرك على الصحيحين للحاكم (1/368). قال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وفي الترغيب والترهيب للمنذري (1/105): رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد جيد. وقال الألباني في سنن أبي داود وابن ماجه: صحيح)
ونلاحظ أن النبي يشرح في هذا الحديث آية الوضوء من سورة المائدة، وقد ذكر: “ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين” بعد “فيغسل وجهه ويديه”، فكان التمييز بين المغسولين (الوجه واليدين) والممسوحين (الرأس والرجلين) واضحا جدا مطابقا للقرآن، لكن بعض الفقهاء أمعنوا في التحريف حيث زعموا أن مسح الرجلين هو غسلهما.
2-حديث أوس الثقفي: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى كِظَامَةَ قَوْمٍ، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ” . وفي رواية: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلى. وفي ثالثة: فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه. وفي أخرى: رَأَيْتُ أَبِي يَوْمًا «تَوَضَّأَ فَمَسَحَ النَّعْلَيْنِ» فَقُلْتُ لَهُ: أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: «هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ».
والحديث مخرَّج في مسند أبي داود الطيالسي ح1209، ومسند أحمد ح16158 و16168 و16181، ومصنف ابن أبي شيبة (1/173 و7/308)، وسنن أبي داود ح160، والطهور للقاسم بن سلام (ص: 387)، وتفسير الطبري ت شاكر (10/ 74و75)، وصحيح ابن حبان (4/168) والمعجم الكبير للطبراني ح603. وقال الألباني في صحيح أبي داود: حديث صحيح. وأخرجه ابن حبان في “صحيحه”. وصححه ابن القطان من حديث ابن عمر).
واختلاف الرواة راجع إلى اقتصار كل واحد منهم على رواية صورة من صور المسح، والمتفق عليه أنه مسح على النعلين وما ظهر من القدمين تحتهما.
3-حديث تميم: عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ المازني، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ بِالْمَاءِ عَلَى رِجْلَيْهِ». (مسند أحمد ح16454، و”الآحاد والمثاني” لابن أبي عاصم (2192)، وصحيح ابن خزيمة ح201، وشرح معاني الآثار للطحاوي (1/35) والمعجم الكبير للطبراني ح1286 والأوسط له ح9332. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/234): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ خَلَا شَيْخَ الطَّبَرَانِيِّ. وفي إتحاف المهرة لابن حجر (6/644): وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّهُ لا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَهُوَ طَعْنٌ مَرْدُودٌ. فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، بِهِ. وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح )

المرجّح السادس: تصريح صحابة بأن المسح حكم القرآن:
لم نجد في الصحابة من ينكر دلالة (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) على أن حكم القرآن في الرجلين هو المسح، وإن كان بعضهم التزم الغسل عملا بالسنة النبوية قبل سورة المائدة، لكننا وجدنا جماعة من الصحابة فهموا أن المسح هو مراد القرآن وأمره، وتلك حجة تلزم الجمهور لأنهم يرون ذلك من باب الإجماع السكوتي، وأما نحن فنستأنس بأخبارهم لتقوية ظاهر الآية لأنهم أهل لغة يتقنونها أفضل من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد الذين زعموا أن القرآن جاء بالغسل في الرجلين وليس المسح.
1-عبد الله بن عباس: عَنِ الرُّبَيِّعِ بنت مُعوّذ قَالَتْ: أَتَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، تَعْنِي حَدِيثَهَا الَّذِي ذَكَرَتْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّاسَ أَبَوْا إِلَّا الْغَسْلَ، وَلَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، إِلَّا الْمَسْحَ. في لفظ: يَأْبَى النَّاسُ إِلَّا الْغَسْلَ وَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَسْحَ – يَعْنِي الْقَدَمَيْنِ – وفي آخر: مَا عَلِمْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا غُسْلَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ. (مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/22)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/27)، والطهور للقاسم بن سلام (ص: 389)، ومسند الحميدي ح345، وسنن ابن ماجه ح458، وسنن الدارقطني (1/168)، والسنن الكبرى للبيهقي (1/117) . وحسنه البوصيري والألباني)
وورد عن عِكْرِمَةَ من عدة طرق: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «الْوُضُوءُ مَسْحَتَانِ وَغَسْلَتَانِ» . في لفظ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ الْغَسْلَتَانِ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالْمَسْحَتَانِ لِلرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ» (مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/19) وتفسير الطبري ومسند الشاميين للطبراني ح2633)
وفي تفسير ابن كثير- سورة المائدة: وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي أَبِي (…) عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَالَ: هُوَ الْمَسْحُ.

2-أنس بن مالك: عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أنْزلَ الْقُرْآن بِالْمَسْحِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، وَجَرَتِ السُّنَّةُ بِالْغَسْلِ. (تفسير الطبري-المائدة، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي (ص: 61). وصححه ابن كثير في تفسيره)
وورد من عدة طرق عن حميد الطويل قال: قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبَنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطَّهور فقال:”اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرَب إلى خَبَثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورَهما وعَرَاقيبهما”. فقال أنس: صدق الله وكذبَ الحجاج، قال الله:”وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم” قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلَّهما. (مصنف ابن أبي شيبة (1/25) وتاريخ واسط (ص: 59) ، وتفسير الطبري-المائدة، والسنن الكبرى للبيهقي (1/117). وصححه ابن كثير في تفسيره)
وفي التفسير من سنن سعيد بن منصور (4/1444) 718 بإسناد صحيح عَنْ أنس أنه قرأ: {وأرجلِكم} .
3-عبد الله بن عمر: من طريقين عن عبد الله بن بدر، عن ابن عمر، قال: نَزَلَ القُرآنُ بالمَسْح، فأمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالغَسْل، فغَسَلْنا. وفي لفظ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ، وَسَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ» (المعجم الكبير للطبراني جـ 13، 14 (ص: 330) ح14134 والأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/414) والاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي (ص: 61)
وقد تلقّف هذا التفسير جماعة من التابعين عن القائلين به من الصحابة، ومنهم:
1-عامر الشعبي: قال إسماعيل بن أبي خالد: كان الشعبي يقرأ:”وَأَرْجُلِكُمْ” بالخفض.
وعَنْ عَاصِمٍ وإسماعيل بن أبي خالد وزُبيد اليامي، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ، وَالسُّنَّةُ بِالْغَسْلِ» في لفظ: «أَمَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ نَزَلَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ» وفي آخر: نزل جبريل بالمسح. (مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/19) ومصنف ابن أبي شيبة (1/26) وتفسير الطبري للمائدة، وشرح معاني الآثار وأحكام القرآن للطحاوي (1/81) والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص: 375)
ويروي دَاوُد بن أبي هند، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «إِنَّمَا هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْغَسْلُ جُعِلَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْحُ أُهْمِلَ فَلَمْ يُجْعَلْ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ» في رواية الطبري: قال: أمر أن يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان. (مصنف ابن أبي شيبة (1/25) والطهور للقاسم بن سلام (ص: 390) وتفسير الطبري )
2-عكرمة مولى ابن عباس: عن يونس قال، حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه، إنما يمسح عليهما، حتى خرج منها. (تفسير الطبري)
وروى قَتَادَة، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، قَالَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، قَالَا: «تَمْسَحُ الرِّجْلَيْنِ» (مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/18))
وعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ» (مصنف ابن أبي شيبة (1/25)
وعن عبيد الله العتكي، عن عكرمة قال: ليس على الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. (تفسير الطبري للمائدة)
وعن قتادة قوله:”يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين” افترض الله غَسلتين ومسحتين. (تفسير الطبري)
وقراءته بالخفض كما في تفسير الطبري وغيره.
3-قتادة المفسر: قال – وكان يقرأ بالخفض – قوله:”يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين” افترض الله غَسلتين ومسحتين. (تفسير الطبري)
4-الضحاك المفسر: قرأ “وَأَرْجُلِكُمْ” بالكسر عطفا على الرؤوس. (تفسير الطبري)
5-الحسن البصري: عَنْ قُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَرَأَ: ” وَأَرْجُلِكُمْ ” (تفسير الطبري، وأحكام القرآن للطحاوي (1/81)
وروى يونس عن الْحَسَنِ، قَالَ: ” إِنَّمَا هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ وَكَانَ يَقُولُ: ظَاهِرُهُمَا وَبَاطِنُهُمَا ” (مصنف ابن أبي شيبة (1/25) والطهور للقاسم بن سلام (ص: 390))
وروى قَتَادَة، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، قَالَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، قَالَا: «تَمْسَحُ الرِّجْلَيْنِ» (مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/18))
6-مجاهد بن جبر: قَرَأَ: ” وَأَرْجُلِكُمْ ” عطفا على الرؤوس (تفسير الطبري، وأحكام القرآن للطحاوي (1/81)

في الجزء الموالي نبيّن وجه دلالة آية الوضوء على مشروعية المسح على ملبوس القدمين كان حذاء أو خفا أو جوربا..

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.