فشلت جميع التيارات الفكرية القومية واليسارية والليبرالية والإسلامية العربية في تحقيق تطلعات الشعوب العربية بالتحرر والتقدم والتنمية، وأخفقت في مشروعها وشعاراتها، ولم تتمكن من إنجاز نموذج واحد بنجاح. هذه التيارات ما زالت تصر على اجترار افكارها وتكرار فشلها في راهن عربي ملتبس وشائك بات يتطلب إعادة طرح الأسئلة الأساسية، ونقد قواعد التفكير ومراجعة المسلمات والبديهيات، وتفكيك المقولات والشعارات الكبرى لإعادة مقاربتها بصورة مغايرة.
في القرن الحادي والعشرين، قرن التطور التقني وثورة المعلومات والتحولات الكبرى، بات النقد الفكري ضرورياً للتفكيك وإعادة جدولة التصنيفات الأيديولوجية التي طغت على أحداث القرن العشرين. في عالم لا أيديولوجي أصبحت الأفكار والثقافة والمعرفة سائلة تتجاوز كافة جدران الأيديولوجيا. في مشهد عربي ملتبس مربك لم يعد التقدمي صاحب رؤية تنويرية حداثية، ولم يعد اليساري صاحب موقف يدافع فيه عن المضطهدين، ولم يعد اليميني هو الرجعي الذي يسعى لإعاقة التقدم. لقد خسر اليسار العربي التقدمي مصداقيته في القرن الحادي والعشرين عبر مواقفه التي بررت كافة المظالم.
حاولت الشعوب العربية هدم جدران الرعب والاستبداد في بلدانها، والخروج من المعتقلات الجماعية وانتزاع حقوقها بحياة بسيطة وبكرامة شأن جميع شعوب الأرض، لكن فرسان اليسار التقدمي أصحاب الأيديولوجيا الخالدة وقفوا بين الشعوب وبين مستقبلهم. هذه المواقف للمثقفين اليساريين العرب الذين يسعون للسلطة دون مشروع حقيقي للتطور، ليست تقدماً بل تخلفاً بقبعة ليبرالية. والتيار الديني الإسلامي فشل في مقاربته ولا يزال عاجز عن الخروج من حالته النظرية اللاهوتية، ولم يدرك بعد أن متطلبات البشر الوضعية كالحريات العامة والغذاء والتعليم والعمل والأمن، لا تقل أهمية عن حاجتهم التعبدية الإيمانية، وبالتالي ليس مقبولاً مطالبة الناس أن يحافظوا على إيمانهم والصمت على الفقر والقمع والخوف.
القومية واليسار العربي
جزء مهم من حركة اليسار العربية خاصة في المشرق خرجت من رحم التيار القومي العربي. بعد النتائج الكارثية التي أعقبت هزيمة حزيران العام 1967، والخذلان الذي أصاب الجماهير العربية والقوى الوطنية من عجز الأنظمة العربية على مواجهة الكيان الصهيوني، الذي انتصرت قواته على جيوش ثلاثة دول عربية، وقامت باحتلال شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان، عقب هذا الانكسار المرعب خرج تيار ماركسي من حركة القوميين العرب ومن حزب البعث العربي الاشتراكي، في ظروف لم تكن للحركة الشيوعية العربية التقليدية أي يد أو تأثير بهذا التحول التاريخي. اعتنق اليساريون الجدد فكر ماركسي مختلف عن أفكار الشيوعيين العرب القدامى، فأصبحت الماركسية هي الأيديولوجية الجديدة لهؤلاء بعد أن رموا القومية خلف ظهورهم. منهم من تبنى أفكاراً هي خليط من الماركسية والشعبوية، وبعضهم تحول من الشيوعية إلى القومية بنكهة بعثية. وجميع اليساريين العرب -وهم قلة- الذين حاولوا إحياء فكرة القومية في صفوف الحركة الشيوعية تم اتهامهم بخيانة الماركسية. ثم إن بعض الشيوعيين العرب في المشرق انشقوا عن أحزابهم لأسباب أيديولوجية تتعلق بمفهوم الأمة العربية.
ومن اللافت بصورة عجائبية أن التيار اليساري الذي تكوّن داخل الحركة القومية العربية قد حوّل مفهوم القومية إلى قضية قطرية وفي خدمتها. فيما بقية الأحزاب الشيوعية العربية أخفقت في إدراك أهمية تشكيل حركة عربية بامتداد أممي للنضال ضد الحركة الصهيونية في فلسطين، وأصبحت ذيلاً للمركز في الاتحاد السوفيتي، وبدلاً من دعم ومؤازرة الشعب الفلسطيني وقواه الثورية في قتالهم لاستعادة وطنهم المسروق، تحول الشيوعيين العرب إلى أبواق متحركة للسياسة الخارجة السوفيتية.
هذا الخلل في تيار اليسار العربي الماركسي يعود في الأصل إلى أنه لم يتشكل نتيجة تطور مجتمعاتنا العربية في سياقها التاريخي، ولا ارتباطاً بالتحولات الاجتماعية، ولا بناء على تراكم فكري ونضالي، ولا خبرة نظرية وثورية وسط الجماهير في ميادين العمل والشوارع. بل ظهر هذا التيار نتيجة صعود موجة الماركسية الثورية في ستينيات القرن العشرين، وانتشار تجارب الأحزاب الشيوعية العالمية وشيوع أسماء قادة حركات ثورية وصلت إلى كافة بقاع الأرض، في الصين وفيتنام وكوبا وكمبوديا وفي دول أمريكا اللاتينية. في هذه الأجواء الثورية الرومانسية التي تلاقحت مع غضب الشارع العربي على الأنظمة العربية نتيجة فشلها وكشف عجزها، ظهر التيار الماركسي العربي.
ماركسية بلا عمال
هناك قضية أخرى بالغة الأهمية من حيث التوصيف والدور والمكانة، هي مصطلح الطبقة العاملة الذي يحتل المكانة الأبرز في أفكار النظرية الماركسية، باعتبار العمال هم الحلقة المركزية بين الطبقة البرجوازية مالكة وسائل الإنتاج، وبين الإنتاج نفسه، هم القوة العضلية التي يستغلها مالك المكننة لإحداث القيمة المضافة التي تؤدي إلى تكديس الثروات لدى أصحاب المصانع.
في الحالة العربية، هل وجدت طبقة عاملة متبلورة علمياً؟ وكيف في الأصل تنشأ طبقة للعمال في البلدان العربية التي تعتمد الاقتصاد الريعي بمعظمها؟ ثم هل تتوفر ظروف مواتية في الحالة العربية لتشكيل تيار يساري ثوري دون الطبقة العاملة؟ وما هو التكييف النظري لدول ثرية دون اقتصاد حقيقي مثل دول الخليج التي يعتمد وجودها على بيع النفط أساساً، ولا يوجد بها طبقة عاملة محلية، بل يتواجد بها عمالاً مهاجرين من دول فقيرة ذات طابع خدمي لا إنتاجي.
في المجتمعات الصناعية الحديثة حيث توجد دولة المواطنين ومجتمع مدني وأحزاب سياسية تتنافس ونقابات غير تابعة وقضاء نزيه ومنظمات أهلية فاعلة وإعلام مستقل، يوجد مواطنين يتمتعون بحريتهم، وهم شركاء سياسيون ويساهمون في إيرادات الدولة من خلال تسديد الضرائب، لذلك يمتلكون حق محاسبة الحكومات وحق اختيار وإسقاط ممثليهم في البرلمانات، وهي حقوق محمية بدساتير وقوانين الدول الديمقراطية.
في الأنظمة العربية الريعية فإن الدولة تنفق على المواطنين لذلك ينطبق على المجتمعات العربية القول بأن من يأكل خبز السلطان يضرب برمحه، ولذلك لا يستطيع المواطن العربي القول لا للحكومة لأنها تصرف عليه، بينما في الغرب فإن المواطنين يدفعون لمؤسسات الدولة.
وفي هذا تستوي جميع الأنظمة العربية بمشرقها ومغربها، الدول الثرية والفقيرة، وتلك القومية العروبية ومن آمنت بالاشتراكية والإصلاح الزراعي، أو الليبرالية أو تلك الدول التي اعتنقت النظام الإسلامي السياسي.
إن الأنظمة العربية بمعظمها تعتاش على الاقتصاد الريعي الذي يعتمد بيع مواد خام كالبترول، أو عبر القطاع الخدمي السياحي والدعارة وتبييض الأموال وتجارة المخدرات، أو من خلال مساعدات خارجية ومن التحويلات المصرفية للأبناء المهاجرين. معظم هذه الأنظمة العربية تتكون في بنيتها إما من تحالف السلطات القبلية والعشائرية والممالك الخاصة مع رأس المال الاستثماري، أو تكون دولاً بحكومات تدير مصالح جماعات وطوائف ومذاهب متصارعة متوافقة، أو أنظمة غير مكتملة لشروط الدولة. وبالرغم من التماسك النسبي والتعايش التاريخي لهذه المجتمعات، إلا أنه لم تتطور بصورة عميقة منذ الدولة العربية الأولى الراشدة وما تبعها من تعاقب، كانت ولا زالت دولة ريعية بمهام حربية حالت دون أن يتحول التجار إلى رأسماليين وأعاقت الحرفيين في انتقالهم للصناعة.
فكيف يتأسس تيار يساري ثوري في مثل تلك البلدان العربية، وبأي أدوات سيتمكن اليساريين العرب من تطبيق شعار النظرية “سلطة العمال والفلاحين” و “ديكتاتورية البروليتاريا”؟
في غياب عمالي طبقي، قام أبناء الفلاحين من الريف بوأد التجارب الديمقراطية التي كانت بدأت تتشكل ملامحها بجهود أبناء التجار في المدن، من خلال تشكيل البرلمانات في المشرق العربي. وتسلقت البرجوازية على أكتاف الجميع لتصادر السلطة عبر الانقلابات العسكرية غالباً. ثم خضع الفلاحين وما يمكن تسميته العمال للتفاهمات التي فرضها العسكر لشراء ولاءهم السياسي، فقدمت هذه الأنظمة لهم التعليم المجاني ووزعت بعض قطع الأراضي على الفلاحين.
كيف لليسار الحقيقي أن يكون وأن يوجد وأن يتطور ويؤثر في هكذا دول مشوهة وخارج أي تصنيف علمي. وقامت الأنظمة العربية العسكرية والمدنية التي تشكلت عقب نيل الاستقلال بالقضاء على أية إمكانية لفعل يساري، من خلال رفعها شعارات الحركة اليسارية نفسها، من التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والحرية والاشتراكية. اللافت أن اليسار العربي اقام علاقات تحالفية مع عدد من الأنظمة العربية الاستبدادية وحصل منها على مساعدات مالية، وكان بمعظمه صوتاً مدّاحاً لهذه الديكتاتوريات.
اليسار العربي بفلسفة وضعية تبسيطية
في القرن الثامن عشر أقدم فلاسفة التنوير “فولتير، ديدرو، جان جاك روسو” وغيرهم على تفكيك العقائد الدينية المذهبية، وقدموا تفسيراً وقراءة جديدة للمسيحية وتأويلاً عقلانياً ليبرالياً للدين، يختلف جذرياً عن المفاهيم القديمة المتشددة. وهو ما مهّد الطريق فكرياً أمام الثورة الفرنسية التي انبثقت بسبب هذا الانقلاب الثوري في العقلية والفكر التنويري الحديث.
صاحب الفلسفة الوضعية عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي “أوغست كونت” الذي حاول وضع دستور للإنسانية ونظرية أخلاقية ودينية للبشرية يجنبها النزاعات ويسهم في إرساء دعائم السلام الاجتماعي. واعتبر أن الحضارات تمر بثلاث مراحل، المرحلة اللاهوتية الدينية ثم المرحلة الميتافيزيقية ثم المرحلة الوضعية العلمية التي اعتبرها ذروة التطور البشري. وقال إن المجتمعات الأوروبية هي وحدها التي اجتازت المرحلتين وانتهت معها المسحية المتزمتة، ووصلت أوروبا أعلى درجة ودخلت عصر العلم والعقل، وبقية الشعوب لا تزال تعيش في مجتمعات لاهوتية غيبية.
الفيلسوف كونت الذي ولد بعد الثورة كان يعترض على الثورات لأنها برأيه تؤدي إلى الدمار. رغم أنه رأى أن ما قام به فلاسفة عصر التنوير من النقد والتفكيك كان فعلاً ضرورياً. ودعا إلى تأسيس دين صالح لجميع البشر لأن المسيحية بظنه عجزت في أن تصبح ديناً عالمياً لأنها عنصرية ومتعصبة فقط للمسيحيين.
معظم اليساريين العرب يشبهون “أوغست كونت” في تحليلهم وفلسفتهم الوضعية ومواقفهم الملتبسة ومعاندة حركة التاريخ، وقراءتهم التبسيطية للأحداث التي تؤكد انعزالهم عن الواقع.
قبل الثورة الفرنسية كانت الكنيسة تنظر للفلسفة على أنها منافس لها، ولم تتحرر الفلسفة من سلكة الكهنوت إلا بعد بروز فلسفة “ديكارت، سبينوزا، فولتير، كانت”. لذلك فإن الفلسفة قد تطرفت بعد الثورة الفرنسية وطالبت بإلغاء المسيحية تماماً واستبدالها بدين العقل، كخطوة اعتبرت رد فعل على محاكم التفتيش المسيحية الأصولية المتشددة. هنا ظهرت فلسفة “أوغست” التي حاولت التوفيق بين التيارين الفكريين حينذاك، فهو رفض التعصب المسيحي وأيضاً رفض النزعة المادية والإلحاد. ونادى بدين جديد قائم على المحبة وبعيد عن الأنانيات والمصالح الشخصية. ثم نظر للفلسفة الوضعية على أنها مهمة لفهم قوانين العالم الموضوعي وتحقيق التقدم والتطور، لكنها لا تقدم لنا تفسيراً عن الحياة قبل وبعد الموت، وهذه مهمة الدين كما يرى.
إن الدين في فلسفة “أوغست” في عصر العلم هو غير الدين في العصور الوسطى. لكنه لم يكن ملحدا كالفلاسفة الآخرون الذين عاصروه مثل “ماركس، فورباخ، نيتشه” ولكن اتفق معهم على أن المسيحية الكلاسيكية الأصولية لا تصلح للعصر الحديث، وأن العلم الحديث هو الذي يحقق تقدم وتطور البشرية، واختلف عنهم بأنه كان صاحب قيم روحانية.
اليساريون الهلاميون
التمييز بين اليساري من اليميني والرجعي من التقدمي في المشهد العربي بات أمراً غير يسيراً. والتيار اليساري العربي بهيئته الكلاسيكية انقرض وتم التحفظ على أدبياته الفكرية وحفظها في المتاحف. وحتى لا أتهم بالعداء للشيوعية والأمة الخالدة، اقر أنني أعرف بعض اليساريين الحقيقيين بصفة شخصية وأشعر بالاسى لحالهم، لكنني هنا لا أخصص بل أتعرض للحركة اليسارية العربية التي غابت عن الساحة. وهذا ما أصاب أيضاً الحركة القومية العربية التي عجزت عن تحقيق شعاراتها وأصيبت بالتهاب مزمن في المفاصل اقعدها طريحة الفراش منذ عقود خلت. ولا أستثني هنا قوى التيارات المتأسلمة التي اقتصر نشاطها سابقاً على الدعوة ونشر القيم الإسلامية والإصلاح والإرشاد، كما أنها امتهنت توجيه النقد اللاذع للقوى اليسارية والقومية العربية. ثم حين انهزم المشروعان القومي واليساري في الحالة العربية، تقدمت القوى الإسلامية نفسها لتتصدر المشهد السياسي، ارتدى رجل الدين ثياب العمل السياسي فتحول من فاعل زاهد لأجل الله والدين وأجر الآخرة إلى مُضارب أناني ضيق الأفق وجشع ومتشدد لا يقبل الآخر ويدعو للإقصاء. وأصبح يصدر قرارات تحرم الناس من رحمة الله بعد تكفيرهم.
القوميون أيضاً ليسوا أفضل حالاً، فما أن غادروا الميدان حتى ارتدّوا إلى بدائية عصبوية وتحولوا إلى الأفكار العشائرية والقبلية والمذهبية، فأصبح خطابهم الذي كان يدعو للوحدة العربية ورص الصفوف، إلى خطاب يستحضر المظلومية الشيعية، فارتدوا الأسود وتقلدوا المناصب المهمة. أو لبسوا العمائم البيضاء واستبدلوا خطابهم الوطني القومي بأخر مذهبي. وأهملوا جميعاً شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية التي كانت تعني كل الأمة بكافة طوائفها ومذاهبها وأديانها، واستبدلوه بفكر انقسامي تشتيتي يعمق الخلافات ويعزز الكراهية.
أما اليسار العربي فقد تم إصدار شهادة وفاته بعد معاناة طويلة مريرة مع الرجعية التي أثبتت أنها قادرة على التجدد والاستمرار والتكيف مع التحولات، مما دفع عدداً غير قليل من اليساريين للانتقال إلى ضفتها ولا زالوا يدعون أنهم ماركسيون. فهل بعد هذا التيه تيه؟
في وسط النضال الذي تلتحم به ومعه شرائح واسعة من الجماهير العربية المضطهدة لاستعادة حقوقها المنهوبة من الأنظمة العربية الطاغية، لا نرى مثقفاً يسارياً تقدمياً واحداً في الشوارع العربية يعاضد ويؤازر المطالب الشعبية، كما كان يفعل المثقفين والفلاسفة الغربيين التقدميين التنويريين.
حالياً لا وجود ولا فعل ولا أثر للحركة الشيوعية، ولا الاشتراكية، ولا لحركات التحرر المناهضة للاستعمار، ولا لحركة التضامن الأممي والسلم والصداقة بين الشعوب. غابت هذه الحركات وحل مكانها منظمات وجماعات متشددة لا تؤمن بالتضامن والتسامح، بل تدعو إلى الكراهية وتأجيج نيران البغضاء بين شعوب وأمم المنطقة. إن ذُكرت إيران يتم وصفها بالمجوسية، وهنا إن كنت تتفق مع سياسة إيران أو تختلف، فإيران ليست آية الله فقط، فهي جلال الدين الرومي، وعمر الخيام وجمال الدين الأفغاني. وتركيا أصبحت عثمانية وحسب في خطاب اليسار الجديد، ولا أحد يذكر “ناظم حكمت وعزيز ينسين ويونس إمره وجاهد عرف وخوجة يسوي ونامق كمال”.
لا يمكن إشاعة الصداقة بين الشعوب بخطاب الحقد والريبة. كيف ننجز التحرر الحقيقي من الاستعمار ونبدأ بمشاريع تنموية وطنية، والأنظمة العربية تتسابق لبيع القطاع العام والاتجاه نحو اقتصاد السوق وتشجيع الاستثمار الغربي. كيف نحقق تنمية مستدامة وبلداننا مثقلة بخدمة الديون الخارجية بعد أن قمنا برهن الأوطان للحصول على قروض من البنك الدولي. وما الفائدة المتوقعة من حركة التحرر الوطني العربية في الواقع الراهن الذي يشير بوضوح أن كافة بلداننا العربية هي دول محتلة أو شبه محتلة أو في طريق الاحتلال. هل ثمة نظام عربي واحد مستقل بصورة فعلية وحقيقية ويمتلك شأنه وقراره بنفسه؟
ضباع الثقافة
في الشرق الوحشي الذي تتصاعد فيه أصوات الدعوة إلى الكراهية ورفض الآخر المختلف، ومحاصرته وتصفيته، وينقسم جماعات وكيانات ودولاً، وتتفسخ شعوبه قومياً وطائفياً ومذهبياً يتصارعون وينغمسون في نزاعات وحروب دامية تقضي على مقدراتهم وأوطانهم. في هذا الواقع البائس يُترك المواطن العربي وحده يواجه ظروفاً طاحنة، يتنازعه فيها قهر وقمع الأنظمة من جهة، وضنك الحياة لتوفير لقمة العيش من جانب آخر. ولا يرى يساري واحد يدافع عن حقوقه، ولا مثقف حقيقي يتحدث باسمه ولا حتى يميني استغلالي بمنافع وأضرار محدودة. أصبح الإنسان العربي يعيش في وطنه مثلما يقيم النزيل في الفنادق، يعتبر وجوده مؤقتاً بعد أن بترت الأنظمة كل انتماء له للوطن.
بعض مثقفي المرحلة من بقايا اليسار يشبه الضباع التي تتكاتف في مواجهة نمر اصطاد حيواناً برياً ليقتات به، وتسرق منه الطريدة بالغدر والخسة. لكن القانون هنا ينص على أن من لا يشارك في المعركة لا يحق له اقتسام الغنائم. يبدو أن معظم المثقفين العرب ينتظرون الحصول على مكاسب من معارك لم يخضها أحداً منهم.
هذه المجموعة من المثقفين أسوأ من الأنظمة العربية الحاكمة لأنها تتميز بالجشع وعدم الوفاء وبالغدر، وهي تحتال وتخادع حتى تظل على قيد التواصل والاستمرار تقوم بأكل الجيفة ولا تقوم بالاصطياد. وما تتقنه هو حديث المقاهي وجدال الصالونات المغلقة، وتوجيه الانتقادات دون بديل ورفض كل شيء، والتعامل مع الناس باستعلاء غير مبرر، فتحولوا من مناضلين إلى دعويين ثرثارين، يشبهون جرس الكنيسة يدعو الناس للإيمان لكنه لا يدخل قاعة الصلاة.
حالياً لم يعد صالحاً ذلك المعيار الذي يعتبر أن كل يساري هو مناضل فاضل مثقف معاصر، وأن كل يميني محافظ رجعي. في المشهد الفلسطيني سقط اليسار في ترف الأيديولوجيا الملتبس، فاعتبر أن نضاله ضد قوى اليمين الفلسطيني هو أنبل وأسمى أشكال النضال، واحتل عنده الصراع الطبقي العدمي -ولو كان تنظيرياً فقط- المكانة الرئيسية. بينما اليمين الفلسطيني هو الذي بادر وأطلق شرارة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وقاد – ولا يزال- الثورة الفلسطينية المعاصرة ونضال الشعب الفلسطيني. ثم حين اشتد عود هذا اليمين وتصلب في غمار العمل الثوري، تسلل جزء من اليسار إلى تنظيم اليمين، وتمكن بعضهم الوصول إلى قمة الهرم القيادي. وبعد التحولات المهمة في مسار القضية الفلسطينية التي أدت إلى انحسار مفاعيلها ثم التوقيع على اتفاقيات أوسلو البغيضة، تم إنشاء السلطة الفلسطينية التي وفرت الوظائف للمناضلين. فجأة صار الحرام حلالاً عند اليسار الفلسطيني، وأصبح التحالف مع اليمين ضرورة وطنية، وسعى معظم اليسار نحو السلطة والحصول على الامتيازات بكل عزم، داس في دربه كافة المبادئ والقيم التي اختبئ خلفها طوال عقود.
التحدي القادم
الثورة الصناعية في أوروبا بدأت مع صناعة أول محرك بخاري محدث بواسطة الإسكتلندي “جيمس وات” العام 1765. الذي أعاد تصميم محرك نيوتن القديم المستخدم حينها لضخ المياه من المناجم، وقام بتغييرات مهمة في تصميم المحرك وجعله أكثر كفاءة وأقل تكلفة.
إن الثورة الصناعية التي انطلقت من بريطانيا في القرن التاسع عشر مع المكننة، هي الأم الشرعية لكافة الثورات المعاصرة. لولاها لما ظهر ماركس ولينين ولا الماركسية والشيوعية.
إن أبرز ملامح الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر أن الآلات التي تعمل بالبخار قد أخذت تحل مكان اليد العاملة. كما تطورت صناعة الفحم والحديد والنسيج. وبدأت الهجرة من الأرياف إلى المدن. الثورة الصناعية الثانية أحدثها اختراع الكهرباء، وظهور السيارات وتطور صناعة النقل، ودخول النفط أسواق الطاقة. الثورة الصناعية الثالثة بدأت مع الكمبيوتر ونظام الرقمنة ومعالجة البيانات والانترنت والبرمجة. الثورة الصناعية الرابعة هي ثورة المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتات وتقنية النانو والطباعة ثلاثية الأبعاد.
يحتاج الواقع العربي الراهن إلى مكتشفين وإلى اكتشافات واختراعات تُحدث ظروفاً جديدة وتعبد الطريق أمام إجراء تغيرات وتحولات في بنية وعقلية المجتمعات العربية. نحتاج ثورة على كل ما هو نمطي وسائد في الفكر العربي وفي الثقافة والعلوم والاقتصاد والسياسة والتعليم. في هذا السديم العربي لا خيارات سوى الإصلاح والنهوض، وإعادة تشكيل الدولة والمجتمع على أسس مدنية وعصرية تضمن حق المواطنة لجميع الأفراد.
السؤال الهام الذي لا نكل ولا نمل من التذكير به، أين نحن كعرب أنظمة ودولاً وأحزاباً وشعوباً من هذا التطور الهائل العاصف في العلوم والتكنولوجيا؟ ومن هذا الاتساع الذي يتضاعف في العلم والمعرفة بيننا وبين الغرب والمجتمعات المتطورة. بلداننا العربية لا زالت تعيش في مرحلة البدائية الجاهلية، وهي بعيدة عن أي ثورة صناعية، في حين أن العالم المتطور قد دخل مرحلة ما بعد الصناعة، مما يجعل الهوة بين العرب والغرب عميقة وتتسع بصورة مرعبة، ونحتاج سنوات ضوئية كي نلتحق بمسيرة التقدم.
إن ثقافة التطور والتغير والتحول والتأقلم مع شروط التطور المعرفي لم يعرفها العرب بعد. إننا بأمس الحاجة إلى أعادة مقارباتنا لمفاهيم متعددة مرتبطة بحياتنا وعليها يتوقف تطورنا من عدمه، ومنها مقاربة وتحديد فهمنا للعلوم والمعرفة والفلسفة، وتسهم في خلق وعي يدرك دورهم ومكانتهم باعتبارهم روافع الانتقال من مرحلة التخلف إلى عصر التطور، أو سيكون العرب أعضاء دائمين في نادي الدول الفاشلة.
Source : https://dinpresse.net/?p=4228