محمد قاوتي: ناسكُ “تَمَصْلُوحْتْ” وحفّار المعنى في “طنجة المشهدية”

11 ديسمبر 2025

خالد أمين

عندما يتحول “الماستر كلاس” إلى طقس للحقيقة في زمن الجحود

في غمرة النقاشات الفكرية التي شهدتها الدورة الحادية والعشرون لمهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية (2025)، والتي اتخذت من “التواريخ المتشابكة” و”المنظور الديكولونيالي” ناظماً لها ، كان هناك حضورٌ من نوع آخر. حضورٌ لا يقاس بضجيج الكلمات، بل بوقار الصمت الذي يسبق العاصفة، وبلاغة “المكابدة” التي يحملها شيخ الكلام، محمد قاوتي.

لم يحضر محمد قاوتي إلى طنجة كضيف عابر، بل جاء كأحد الآباء المؤسسين للمركز الدولي لدراسات الفرجة، حاملاً معه إرثاً ثقيلاً من النضال المسرحي والمعرفي. ورغم محاولات “أصدقاء الأمس” طمس هذا الأثر أو التنكر له، إلا أن قاوتي، بترفعه المعهود، اختار الرد بالأدب الرفيع وبالحضور الباذخ. لقد اختار هذا الرجل أن ينأى بنفسه عن صخب المركز، معتزلاً في “تَمَصْلُوحْتْ” قرب مراكش، لا هروباً من الواقع، بل حفرًا في عمقه. هناك، في عزلته الاختيارية، يمارس طقوس الكتابة كفعل وجودي، بعيداً عن أضواء الزيف. ومن تلك العزلة، جاء إلى طنجة ليلقننا درساً في “أخلاقيات الممارسة” قبل “نظريات الفرجة”.

لعل أكثر ما يثير الدهشة في شخصية قاوتي هو ذلك الالتزام الصارم بقوانين المؤسسة التي كان أحد واضعي لبناتها. ففي الوقت الذي يتعالى فيه أنصاف الموهوبين، نجد قاوتي يبادر بإرسال مقترحه العلمي وسيرته الذاتية الموجزة في الآجال المحددة، منضبطاً للمسطرة التنظيمية، وكأنه يقول لنا بلسان الحال: “الاستثناء الوحيد في العلم هو الالتزام”. هذا السلوك ليس مجرد احترام لبروتوكول طنجة المشهدية، بل هو رسالة أخلاقية مفادها أن الكبار لا يحتاجون لخرق القوانين لإثبات وجودهم، لأن حضورهم وحده قانون.

الماستر كلاس: حفريات في “نقد النقد”

لم تكن مشاركة قاوتي في فقرة “الماستر كلاس” مجرد محاضرة أكاديمية تقليدية، بل تحولت إلى “محاضرة أدائية” بامتياز. لقد وقف قاوتي، متدثراً بعباءة الصوفية، ليقدم ورقته الموسومة بـ “التكملة: بما على هوامش دراسات الفرجة من صلة”. في هذا النص الماتع، مارس قاوتي حفرية معرفية (Archeology of Knowledge) استدعى فيها أرواح التراث العربي (الجاحظ، النفري، التوحيدي)، ليشتبك مع أسئلة الراهن. لم يكتفِ بنقد الممارسة المسرحية، بل تجاوزها إلى “نقد النقد”، ممارساً تشريحاً دقيقاً لظاهرة “جوقة التجريس”، أولئك الذين “اقترضوا الرأي حسب الطلب والتكليف”.

لقد كان قاوتي قاسياً في تشخيصه، لكن قسوة الجراح الذي يريد استئصال الورم. تحدث عن أولئك الذين “سود المال فيهم غير السيد”، وعن الذين “أصابهم داء القوام فأقعدهم”، مشيراً إلى أزمة “الوسوسة” التي تصيب المبدع وهو يحاول إقامة البرزخ بين ما يقال وما لا يقال.

إن نص “التكملة” الذي قدمه قاوتي هو وثيقة إدانة ضد استسهال المعرفة، وصرخة في وجه من “يحسن خط التصاوير ولا يحسن خلط الأصباغ”. لقد أكد من خلاله أن المعرفة ليست بضاعة للمزايدة، وأن “الرأي والهوى متعاديان”، وأن الخلاص يكمن في العودة إلى “عزيمة العلم، وفرقان المعرفة، وأدب الرؤية”.

لقد أثبت محمد قاوتي في “طنجة المشهدية 2025” أن العزلة في “تَمَصْلُوحْتْ” لم تكن سوى “خلوة” لإنضاج الرؤية، وأن عودته للمنصة كانت “فتحاً للرحبة”. لقد علمنا أن الوفاء للمشروع الثقافي أهم من الوفاء للأشخاص، وأن الكاتب الحقيقي هو الذي يبقى “قوله” حتى وإن “توارى” جسده أو تنكر له الخلان.

تحية لشيخ الكلام، الذي علمنا : “بقي أدب؛ بقيت معرفة. بقي قول؛ بقي انكتاب”. سعدي بالشرفا.

المصدر: صفحة الكاتب على منصة فيسبوك.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...