محمد التهامي الحراق
تَصْطَفِينَا، في هذه المصاحبةِ، الصلاةُ على رسول اللهِ إلى حضرتها، لنحطَّ الرحالَ عندَ واحدٍ من أعظمِ الأولياءِ الذينَ وهبهمُ اللهُ الفتحَ فيها وبها. إنهُ الشيخ العارف بالله، والولي الصالح، الإمام أبو عبد الله محمدٌ بنُ سليمان الجزولي السملالي الحسني الشاذلي، ويعرف بالجَزولي لكونه في عداد جَزُولة، وهي قبيلة أمازيغية بسوس الأقصى. ولد بها عام 807هـ، وبها نشأ وقرأ القرآن ثم رحل من بلاده إلى فاس لطلب العلم، فدَرَس بمدرسة الصفَّارين، وبيتُه بها مشهورٌ معروف. كان فقيها متمكِّنا، لكنه انصرف عن ذلك كلِّه واشتغل بعبادة الله عز وجل، وشُغِف بالصلاة على الحبيب المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلم، وأولِعَ بالمداومَةِ عليها، وذلك مبنى طريقهِ وطريقِ أتباعه. وفي ذلكَ ألف كتابه العظيم “دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار”، وهو الكتاب الذي نالَ من الحظوة والانتشار ما لم يحزه أي كتاب في هذا الباب.
بعد أن ألَّف الشيخ الجزولي كتابَه “دلائل الخيرات”، اتَّصل بالشيخ العارف أبي عبد الله محمد أمغار الذي تلقى عنه الطريقة الشاذلية. ثم خرج للدعوة والإرشاد والتربية بعد أن مكث أربعةَ عشر عاما في الخَلوة، ليتجه إلى آسفي وهناك زاد أتباعُه زيادة كبيرة حتى قيل إنه اجتمع بين يديه من المريدين اثنا عشر ألفا وستُّمائة وخمسةٌ وستون، ثم رجع لبلاده جزولة وبقي بها إلى أن توفي ببقعة يقال لها أفوغال سنة 870هـ، ثم نُقل من سوس إلى مراكش بعد 77 سنة من موته، ودفنوه برياض العروس وبني عليه ضريح ومقام.
ومن أكابر أصحابه الآخذين عنه الطريق الشيخُ الكبير ووارث سره عبد العزيز التباع. ويُعتبر الإمام الجزولي مجدِّدَ الطريقة الشاذلية وباعثَها ومؤسِّسَ الطريقة الجزولية. وقد انتشرت طريقته هاته في العالم الإسلامي عامة وفي المغرب العربي خاصة. وتبدَّى هذا الانتشار في ظهور الطرق والزوايا المتفرعة عن الجزولية في مختلِف بلدان المغرب العربي، مثل: الطريقة العيساوية، والطريقة الوزانية، والطريقة الناصرية؛ مثلما تبدى هذا الانتشار في الإقبال على شرح كتب الإمام الجزولي وخاصة “دلائلَ الخيرات”. ومعلومٌ أن الإمام الجزولي اهتم بتربية مريديه وتلقينهم أصولَ طريقته، وهذا الاهتمام تبلور في كثرة الأحزاب والأذكار التي ألَّفها ليردِّدُوها في مختلِف ساعات النهار. وأهمُّها “الحزب الصغير” أو “حزب الفلاح”، و”الحزب الكبير” أو “حزب سبحان الدايم الذي لا يزول”. وأشهرها كتابُ “دلائل الخيرات” الذي كان الهدفُ منه ترسيخَ تعظيمِ الرسول صلى اللهُ عليهِ وسلم في الأنفس وتثبيتَ محبتِه في القلوب.
يقول الإمام الجزولي في مفتتحِ كتابِ “دلائل الخيرات”: “الحمد لله الذي هدانا للإيمان والإسلام، والصلاةُ والسلام على نبيه الذي استنقذنا به من عبادة الأوثان والأصنام، وعلى آله وصحبه النجباء البررة الكرام. وبعدُ فالغرض من هذا الكتاب، ذكرُ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفضائلُها أذكرها محذوفةَ الأسانيد ليسهُلَ حفظها على القارئ، وهي من أهمِّ المُهمَّات، لمن يريدُ القربَ من ربِّ الأرباب، وسميته بكتاب “دلائلِ الخيرات وشوارقِ الأنوار، في ذكر الصلاة على النبي المختار” ابتغاءً لمرضاة الله تعالَى، ومحبَّةً في رسوله الكريم، سيدِنا محمد صلى الله عليه وسلَّم تسليما، واللهُ المسؤولُ أن يجعلنا لسنته من التابعين، ولذاته الكاملةِ من المحبين، فإنه على ذلك قدير، لا إله غيره، ولا خير إلا خيره، وهو نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.
وبعد هذا، يمضي الإمام الجزولي في إيراد الأحاديث والآثار المحبِّبَة والمرغِّبَة في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، والواعدةِ بعظيمِ وجزيلِ الثواب في هذه الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة. وكلُّ الأحاديث التي أوردها الإمام الجزولي تنصُّ على أن الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم هي أحبُّ القربات والطاعات إلى الله، وأنها من أفضلِ الأذكارِ والأوراد، وأنها الدليل القاطع والبرهان الصادق على الحب الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن المحبين لرسول صلى الله عليه وسلم موعودون من الله ورسوله بأن يكونوا في أعلى عليين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فالمرء يحشر مع من أحب كما أخبرنا بذلك الصادق الأمين. ثم يورد الإمام الجزولي بعد ذلك أسماءَ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم المائتين وواحد.
وقد رُتِّبت صلواتُ كتابِ “دلائل الخيرات” حسب أيام الأسبوع، وكلُّها مناجيات ودعوات وصلوات على الحبيب صلى الله عليه و سلم. وهي الصلوات التي برع خلالَها الإمام الجزولي في ما نسميهِ “بلاغةَ التَّكْثِير”، بحيث نجد مختلِف الصيغ التكثيرية، وهي صيغ مبتكَرةٌ ترومُ الإشارةَ إلى الكثرة المفتوحة، والميلَ للإيحاء إلى اللانهائيِّ من الأعداد التي تُتَرجِمُ في الصلاةِ على النبيِّ لانهائيةَ محبتِه؛ بل واستحالة حصرِها أو تقييدها. يقول الإمام الجزولي مثلا: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ الْأَقْطَارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ وَرَقِ الْأَشْجَارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ زَبَدِ الْبِحَارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ الأَنْهَارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ رَمْلِ الصَّحَارِى وَالْقِفَارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ ثِقَلِ الْجِبَالِ وَالْأَحْجَارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ الْأَبْرَارِ وَالفُجَّارِ، وَصَلِّ عَلَى (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ (سَيِّدِنَا) مُحَمَّدٍ عَدَدَ مَا يَخْتَلِفُ بِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ”.
ونظرا لاحتفاء هذا الكتاب بالصلاة على النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم بما لا نظيرَ له، فقد حازَ منزلةً عظيمةٌ في نفوسِ المسلمين عموما، والمغاربةِ بشكل خاص؛ حيثُ لا يتقدم عندهم في الصلاة على النبي الكريم غيرُه من الكتب. لذلك، عقدوا له مجالسَ قراءةٍ في كل كل بقاع المغرب، وتنافسوا في حفظه، وخصُّوهُ بالشرحِ والعنايةِ والتسْفِير المُذَهَّبِ والاصطحابِ في المعاركِ الجهاديةِ، وأوقفُوا أوقافاً على تلاوتهِ، وَنظَّموا مواسمَ تجتمع فيها كل الطوائف والطرق، من العامة والخاصة للتبركِ بتلاوتهِ وختمِه ختماتٍ عدة.
ولله در القائل:
نُورُ الدلائلِ في البريَّةِ مُشرِقُ—وروائحُ الأسرارِ منهُ تَعبَقُ
يا حسنَهُ من جامعٍ صلواتِه—آياتُ فتحٍ بالهداية تَخفَقُ
أهلُ الصلاةِ على النبيِّ قدْ أكثرُوا—في جمْعِهَا وتنافسُوا وتأنَّقُوا
لكنْ عنايةُ ربِّنَا حقاًّ قَضَتْ—أنَّ الجَزُوليَ شأوُهُ لا يُلْحَقُ
لا غرْوَ أنْ يعلُو الجميعَ لأنَّه—قطبُ الزَّمانِ وغوثُه المُتحقِّقُ
إن الدلائلَ نعمةٌ أكرِمْ بِهَا— مِنْ نِعمَةٍ حُبَّ الحبيبِ تُحقِّقُ
فاعكِفْ عليهِ مُلازماً إن شئتَ أنْ—ترقَى المعالِي والنفائسَ تسبِقُ”.
(محمد التهامي الحراق، “أدر ذكر من أهوى…مصاحبات عرفانية”، دار أبي رقراق، الرباط، 2023، ص. 91-94)