23 يوليو 2025 / 10:18

مجتمعات للتواصل الاجتماعي أو مجتمعات الشكوى دون نقد للنفس

كريم محمد. باحث ومترجم من مصر

هناك فضيلة عربيّة وإسلاميّة تتمثّل في إنزال النّاس منازلهم، وهي لا تعني التبجيل، بل هي فضيلة لها بعدٌ اجتماعيّ يتعلّق بـ«العدل» في إعطاء كلّ ذي حقّ حقه الاجتماعيّ كمرتبة ومنزلة له، وأيضًا ألّا ترفع قومًا فوق قوم وهم لا يستحقون، ولا تغمط حقّ أحد على حساب أحد.
لكن هذه الفضيلة تُجتزَأ غالبًا، بل وتشوّه بالاستعارة دائمًا؛ حيث غالبًا ما يغيب عن المتخلّق بها شقٌّ آخر مهم، بل هو مكمّل للفضيلة الأولى: ألا وهو شقّ أن يضع الإنسان نفسه في منزلته، قبل الآخرين، وألّا يقيّم نفسه سوى ضمن ما تستحقه هذه الذات، ومن هنا تنبع فضيلة التواضع؛ التي هي، بدورها أيضًا، لا تعني غمط النّفس حقّها، بل التسكين من حدّة وشراهة الذات في تبويء نفسها مكانةً ربّما لا تستحقّها.
إذا ضممنا شقّيْ هذه الفضيلة، سيتيّن لنا أنّها فضيلة واحدة، متمثّلة في العدل والقسط في واقع الأمر.
إنّ كثيرًا من السّخط الذي تبديه الذّوات في السوشيال ميديا، وفي الحياة عمومًا، هو سخطٌ نابع أغلب الوقت من ظلم الذات لنفسها بتقييمها بأكثر مما تستحق: فالنّاس يبالغون للغاية في تصوّرهم لذاتهم بفعل الانفتاح اللانهائيّ للمرئيّ، ويتخيّل ويستهيم دون نقد للنفس؛ أي وضعها ضمن حدود ما هو ممكن لها مما هو ليس بمستطاعها.
إنّ أيّ فعل يخلو من الحماس والفورة لا يجذب الذات في السوشيال ميديا، وحتى عندما يُحتفى بـ«العاديّ» في هذه العوالم المصمتة فإنما يحتفى به ضمن «ترند» ما عن العاديّ وتدبيج المنشورات في مديحه. لذا؛ هي ذات ساخطة جدًا: لا يمكن لهذه الذات إلّا أن تكتئب، أو تنعزل عن السوشيال برمّته. فطوال الوقت، وفائض الصور يغمر الذات، ومجتمع «أنت تستطيع» يتنامى كسرطان لا يفعل سوى شلّك ببطء، وفي الأخير؛ هناك الواقع الماديّ الصلب الذي تنكسر دونه هذه التصورات. هناك في النهاية البشر، العاديّون جدًا، الذين لا يناسبون فتيات وفتيان السوشيال ميديا.
في غمار هذه اللاعدالة على منصات التواصل الاجتماعيّ، تغيب عدالة أخرى، عدالة حقيقيّة بالحقّ في تعليم وصحة وحياة ذات جودة معقولة. تغيب هذه العدالة بفقدان القسط، أي هذا التضخيم المغالي في الذات وما تستحقه. فالجميع «مكتئب» لأنّه لا يجد شريكًا مناسبًا، ويشكو أمّه وأباه. وهكذا، من مجتمعات للتواصل الاجتماعيّ، تصبح “مجتمعات للشكوى” من كلّ ما هو اجتماعيّ. لكن الذات وهي تشكو ههنا فإنها تمكرُ، إنّها تضخم نفسها، تحت شعار «جدارة» ما، لا يمكن بحال أن يتأتى إلا لعُصابيين أو ضعاف نفوس.