نشأ القانون بصفة عامة لتنظيم علاقات إنسانية متنوعة ، وتعددت فروعه بتعدد نوعيات هذه العلاقات لتتلائم مع طبيعة كل منها ، وقد لاحظ الفقهاء منذ عهد الرومان إنقسام القانون إلى قسمين رئيسيين هما القانون العام والقانون الخاص ، وظهرت معايير متعددة للتمييز بين هذين القانونين.
فالقانون العام هو القانون الذي ينظم حكومة الدولة وعلاقتها بالمواطنين باعتبارها صاحبة السلطة ، والقائمة على تحقيق المصلحة العامة ، أما القانون الخاص فهو ذلك الذي يحكم العلاقات التي تنشأ بين الأفراد أو بينهم وبين إحدى جهات الحكومة عندما تتصرف كالأفراد دون استناد إلى ما لها من سلطات.
ليس في استطاعة الإدارة في أي دولة من الدول أن تؤدي كافة مهامها أو تضطلع بكل وظائفها عن طريق مجرد الرجوع إلى قواعد القانون الخاص التي تحكم علاقات الأفراد وتقوم على أساس مبدأ المساواة بين أطراف العلاقة القانونية ، ومن ناحية أخرى فإن الإدارة تعمل على رعاية شؤون المجتمع بأسره، وتقوم بتحقيق المصلحة العامة التي يجب أن تفضل وترجح – عند التعارض- على مصالح الأفراد الخاصة .
من أجل ذلك نشأت قواعد قانونية متميزة عن تلك التي تخضع لها معاملات أشخاص القانون الخاص ، فهذه القواعد قد تظهر في صورة قانون إداري مستقل كما هو الحال في فرنسا والدول التي حذت حذوها، وقد تأتي في هيئة استثناءات من القانون العام تطبق على مختلف العلاقات بصرف النظر عن أطرافها، كما هو الشأن في الدول الانجلوسكسونية كانجلترا والولايات المتحدة الأمريكية ، حيث تخضع الإدارة في الأصل لنفس القانون الذي يسري على الأفراد.
ويرى الفقه الفرنسي أن وجود قواعد قانونية خاصة بالعلاقات الإدارية يرجع إلى سبب من اثنين:
الأول: عدم تناسب قواعد القانون الخاص مع هذه العلاقات ، فليس من المناسب مثلا أن يخضع العقد الإداري الذي تعمل الإدارة بواسطته على تشغيل المرافق العامة لنفس القواعد التي تحكم عقود الأفراد وتقوم على مبدأ المساواة.
الثاني: وجود علاقات إدارية لا يعرفها القانون الخاص ، مثال تلك التي تلجأ الإدارة فيها إلى استخدام امتيازات السلطة العامة كما هو الحال في نزع الملكية للمنفعة العامة.
ومن تم فالقانون الإداري يحكم الإدارة باعتبارها سلطة عامة – تمثل أحد جوانب السلطة التنفيذية- تهدف تصرفاتها إلى إشباع الحاجات المتصلة بالمصلحة العامة ،مما يقتضي تمييزها في علاقاتها بالآخرين، ومنحها مجموعة من الامتيازات التي تعرف بامتيازات السلطة ، وليس في اعتراف القانون للإدارة بهذه الامتيازات اعتداء على الحقوق والحريات الفردية ، أو انتقاص من ديموقراطية هذا القانون ، بل إن هذا القانون – على العكس – قد عمل على حماية تلك الحقوق والحريات في مجالات متعددة بفرض كثير من القيود على تصرفات الإدارة .
فترجع الحكمة في إلزام الإدارة بألا تتعدى في نشاطها إطار المشروعية الإدارية ، إلى اعتبارات متعددة، فلا شك أولا أن في احترام قواعد القانون الإداري ضمانة كبرى للأفراد ضد اعتداءات الإدارة وتعسفها في استعمال ما تتمتع به من سلطات واسعة ، كما أن القانون الإداري يحاول بما يضع من تنظيمات أن يخضع العمل الإداري للمبادئ العلمية التي يقدر جدواها ويعترف بأثرها في رفع مستوى الكفاءة الإدارية ، وأخيرا فإن احترام قواعد القانون الإداري من جانب الإدارة هو في نفس الوقت احترام لأوامر السلطة السياسية التي تملك وضع هذه القواعد وتغييرها.
لكن خضوع الإدارة للقانون الإداري لا يكبل يديها ولا يطبق عليها الخناق، إذ أن القانون رغم تقييده للإدارة لا يصل إلى حد حرمانها من كل حرية ومبادئها، وإلا أعياها وشل حركتها، فإذا كانت قواعد القانون الإداري تضع للإدارة هدفا يجب إدراكه أو حدودا عليها احترامها، فإن هذه القواعد لا تحدد بدقة وتفصيل كافة السبل التي يجب أن يمر من خلالها النشاط الإداري .
فلا بد أن تتمتع الإدارة بقسط – صغير أو كبير – من السلطة التقديرية والحرية في اختيار وسائل العمل وطرائقه في حدود التنظيم العام والخطوط العريضة التي يقتصر القانون عادة على رسم معالمها، فهذا الامتياز دعت له ضرورة إعطاء الثقة للإدارة لتتصرف وفق المصلحة ، على أن تتم رقابة قراراتها بشكل دوري ليتبين كون الإدارة لم تتعسف في استعمال هذا الحق.
فالسلطة التنفيذية عندما تقوم بنشاطها تجد نفسها أمام أمرين(1):
الأول: أن يحدد لها القانون سلفا الطريق الذي يجب عليها إتباعه بأن ينص على الشروط الواجب توافرها حتى تستطيع إصدار القرار الإداري، وفي هذه الحالة لا يكون للإدارة حرية تقدير ملائمة القرار الإداري، أي القاعدة هنا ليست اختيارية، كما لو قرر القانون حكما واحدا في كل حالة تتوافر فيها شروط معينة، فهنا يكون القانون واحدا ومعلوم سلفا ، وليس للإدارة خيار في إتباعه أو عدم إتباعه، والمثال الواضح في هذه الحالة لو نص القانون على الشروط الواجب توافرها فيمن يطلب ترخيص سلاح للصيد أو لحماية النفس ، فإن استوفى طلب الترخيص هذه الشروط لا تستطيع أن تمنع منحه هذا الترخيص ، بحجة أنه لا يحسن الصيد أو أن حمل السلاح في يده خطر على الأفراد ، وإذا فعلت يكون قرارها مشوبا بعيب تجاوز السلطة.
الثاني: أن يترك المنظم للإدارة ملائمة إصدار القرار ويسكت المنظم عن وصف الطريق الواجب على الإدارة إتباعه سلفا – فالمنظم لم ينصب نفسه قاضي ملائمة القرار ، بل جعل الإدارة قاضي الملائمة – ولا تخضع في هذا الشأن لرقابة القاضي، لأن القاضي يراقب ملائمة القرار في حالة الاختصاص المقيد، إنما يحل محل المنظم للتأكد من الإدارة قد سايرت المنظم في تقديره لملائمة القرار ، أما بالنسبة للقرار الصادر بناء على ما للسلطة التنفيذية من سلطة تقديرية ، فإن المنظم نفسه قد جعل الإدارة هي قاضي ملائمة ، إذ لا محل لتدخل القاضي.
إن مقتضى انحصار وظيفة السلطة التنفيذية في مجرد تنفيذ القوانين التي تسنها السلطة التشريعية يستلزم أن تقوم وظيفة السلطة التنفيذية بصفة عامة ، والإدارة بصفة خاصة ، على مجرد التعبير تعبيرا صادقا عن إرادة المشرع بلا نقص أو زيادة ، وبهذا المعنى العام تكون سلطات الإدارة مقيدة باستمرار ، ولكن مقتضيات العمل وضرورات الحياة الإدارية تحول دون الأخذ بالمبدأ السابق على إطلاقه.
فإذا كان الأصل أن يضع المشرع الخطوط العامة التي تعمل السلطة التنفيذية في نطاقها،فإن الإدارة ليست بالآلة الصماء، بل تتكون من أفراد مبصرين،يواجهون ظروفا متغيرة تقتضي في كثير من الحالات تنويعا في المعاملة، وللجماعة مصلحة في أن تتمكن الإدارة من مواجهة كل حالة وفقا لظروفها الخاصة ، حتى يمكن تحقيق المصلحة العامة على أتم وجه ممكن ، ومن هنا ولدت السلطة التقديرية.
ولقد عرفها العلامة ” بونار ” السلطة التقديرية بأن سلطة الإدارة تكون تقديرية إذا ترك لها القانون الذي يمنحها هذه السلطة الحرية في أن تتدخل أو أن تمتنع وترك لها أيضا الحرية بالنسبة لزمن وكيفية وفحوى القرار الذي تقرره، ومن تم تتكون السلطة التقديرية من حرية التقدير التي يمنحها القانون للإدارة لتقرير ما يعمل وما يترك .
وأما السلطة التقديرية للإدارة بمعناها الواسع هي تمتعها بقسط من حرية التصرف عندما تمارس اختصاصاتها القانونية بحيث يكون للإدارة تقدير اتخاذ التصرف أو الامتناع عن اتخاذه، أو اتخاذه على نحو معين ، أو اختيار الوقت الذي تراه مناسبا للتصرف ، أو السبب الملائم له ، أو تحديد محله(2).
لذلك فإن السلطة التقديرية في حقيقة الأمر هي وسيلة لتطبيق القانون والالتزام بمبدأ المشروعية مثلها مثل السلطة المقيدة، غاية الأمر أن المشرع قدر أن منح قدر من حرية التصرف للإدارة في موضوع ما هو أجدى وأنفع لتحقيق الهدف من هذا الموضوع مما لو قيدها بتوقيت أو أسلوب معين للتصرف بشأنه، ومن ثم فإنه ينأى عن تحديد نشاط الإدارة بشأن هذا الموضوع كله أو في بعض جوانبه تاركا للإدارة حرية التصرف والتقدير بموجب خبراتها الخاصة ، سيما وأن اعتبارات تغير الظروف وتطورها المستمر تجعل تحديد نشاط الإدارة بقواعد ثابتة سلفا أمرا متعذرا.
والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة عن ماهي الدواعي والمبررات التي تدعو إلى الاعتراف للإدارة بسلطة تقديرية في أعمالها؟
هذه المبررات تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
الأولى: المبررات العلمية
إن المشرع لا يستطيع أن يتنبأ عند إصداره للقانون بكل ما يحدث من وقائع وأحداث مستقبلا، ولا يستطيع أن يحل مقدما كل المشكلات التي سوف تثور عند تطبيق القانون ، ولذلك كان لا بد من إعطاء الإدارة سلطة تقديرية تستطيع أن تواجه بها الحالات التي تنشأ والتي لا يكون المشرع قد تنبأ بها، وأن تضع الحلول المناسبة لها ، كما أن القاضي الإداري لا يستطيع عمليا أن يراقب استخدام الإدارة لسلطتها التقديرية بطريقة كاملة ، لأنه مهما وضع أمامه من معلومات ومهما أجري من أبحاث وتحريات حول موضوع النزاع فإنه : يكون بعيدا عن المكان الذي تتم فيه الوقائع التي تستلزم تدخل الإدارة ،وأيضا أنه لا يستطيع وهو يصدر حكمه دون أن يكون صورة مماثلة عن الحادث وقت حدوثه، ذلك لأنه يصدر حكمه عادة بعد مضي فترة من الزمن من وقوع الحادث، وأخيرا ، فالقاضي الإداري تنقصه الخبرة الكافية لمواجهة الحالات التي تعرض على الإدارة ، كما أنه لا يكون ملما بالوسائل التي تتخذها الإدارة لدرء هذه الحالات.
الثانية: اعتبار الكفاءة الإدارية
لا جدال في أن إطلاق حرية الإدارة في ممارستها لاختصاصاتها يؤدي إلى حسن أداء الوظيفة ، ذلك لأنه يعطي الإدارة حرية التقدير ووزن الملابسات في العمل الإداري ، ويساعد على غرس روح الابتكار، ولهذا كان من واجب المشرع أن يفسح المجال للإدارة في بعض الحالات لاستخدام سلطتها التقديرية، وكان من واجب القاضي أيضا ألا يضيق عليها الخناق داخل هذا الإطار التقديرية.
ولذلك فقد حرص المشرع والقضاء على عدم الاعتراف بالسلطة التقديرية للإدارة ، إلا بالقدر اللازم والضروري لتحقيق أهدافها ودون أية تضحية بحقوق الأفراد وحرياتهم.
الثالثة: المبررات القانونية
حينما يخاطب المشرع الأفراد الخاضعين لقواعده العامة المجردة، فإنه يلجأ إلى وضع الإطار العام أو النطاق الخارجي الذي تكون أفعال الأفراد داخله مشروعة طالما بقيت في إطاره، لكنه يترك للأفراد حرية الاختيار داخل هذا الإطار العام.
والإدارة بحكم كونها من الأشخاص المخاطبين بالقواعد القانونية فإنها تملك الخيار داخل الإطار الذي وضعه المشرع، فإذا ما خرجت بسلطتها التقديرية عنه كان عملها غير مشروع، أما عدم تدخل القاضي في ملاءمات الإدارة فإنه يرجع إلى مبدأ الفصل بين السلطات، فلو أن القاضي أعطى لنفسه سلطة التعقيب على الملائمة الإدارية لنصب من نفسه رئيسا إداريا أعلى وهذا غير جائز(3).
والخلاصة أن السلطة التقديرية حقيقة واقعة ، وهي أمر لا غنى عنه للإدارة التي أصبحت في الوقت الحاضر إدارة خدمات حتى تتمكن من أداء وظيفتها على أكمل وجه تحقيقا للمصلحة العامة.
وليس في ذلك أي إضرار بحقوق الأفراد وحرياتهم، خاصة مع حرص المشرع والقضاء على عدم الاعتراف بالسلطة التقديرية للإدارة إلا بالقدر اللازم والضروري لتحقيق أهدافها دون أي تضحية بحقوق الأفراد وحرياتهم.
*متصرف تربوي بالمديرية الإقليمية القنيطرة
ــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1): السلطة التقديرية للإدارة ، المفهوم والتوصيف والآثار، دراسة تأصيلية مقارنة ، تأليف عبد العزيز بن سعد الدغيثر، إصدارات شبكة الألوكة 2006 ص : 6-7-8.
(2): السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها ، تأليف حمد عمر حمد ، الطبعة الأولى 2003، منشورات أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، صفحة 95.
(3): المصدر السابق ( الصفحة: 131-132-133
Source : https://dinpresse.net/?p=19419