ما هي ضوابط التصوف السني في قضية” الكشف والإلهام”؟

ذ محمد جناي
2021-08-03T08:36:23+01:00
آراء ومواقف
ذ محمد جناي3 أغسطس 2021آخر تحديث : الثلاثاء 3 أغسطس 2021 - 8:36 صباحًا
ما هي ضوابط التصوف السني في قضية” الكشف والإلهام”؟

ذ. محمد جناي
يصرح كثير من أئمة التصوف – خاصة القدامى- بضرورة التقيد بالكتاب والسنة، ووزن طريقتهم بميزان الوحيين، فما وافقهما قُبِل، وما خالفهما يُرد، قال الجنيد :” الطرق كلٌُها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه السلام ، ومذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة”، وقال أبو الحسن الشاذلي : “إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ، ولم يضمنهما لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة”، وقال ابن عربي الطائي :” لا تحكمن بإلهام تجده، فقد يكون في غير مايرضاه واهبُه “، والنصوص عنهم في ذلك كثيرة، إلا أن الأمر الواقع كان بخلاف ذلك كثيرا، فلم يتقيد أكثر الصوفية في علومهم وأحوالهم بذلك، وصار التناقض سمة بارزة في كلامهم، بل في كلام الشخص الواحد ، كابن عربي الذي يقرر في بداية الفتوحات المكية “عقيدة للعوام من أهل الإسلام أهل التقليد وأهل النظر”، ثم يتبعها “بعقيدة خواص أهل الله من أهل طريق الله من المحققين أهل الكشف والوجود”، وأما “عقيدة الخلاصة” فلم يصرح بها على التعيين “لما فيها من الغموض”، ولكنه نثرها في كتابه ، بل في كثير من كتبه ك(الفصوص) وغيره، وهي تدور حول قضيته التي يدور حولها وهي (وحدة الوجود).

وهذا الذي ذكره ابن عربي يفسر هذا التناقض المشار إليه آنفا، فالقوم يتكلمون بكلام لأهل الظاهر والشرائع غير كلامهم لأهل الباطن والحقائق، فالكتاب والسنة والإجماع وغيرها من مصادر التلقي المعروفة عند أهل السنة يعتمد عليها في استنباط الشرائع فقط ، أما الحقائق فلها طريقها ومصادرها الأخرى ، فالحقيقة لا يتوصل إليها بالكتاب والسنة ، ولا تتلقى في مجالس العلم ولا النظر في كتب أهل العلم ، وإنما تؤخذ عن الله مباشرة، فعلماء الشريعة يأخذون علومهم ميتا عن ميت ، وشتان بين مؤلف يقول : ” حدثني فلان رحمه الله عن فلان رحمه الله ، وبين من يقول :حدثني قلبي عن ربي”.

ويعد الكشف الصوفي أحدَ أهم مصادر التلقي عند الصوفية، يعتمدون عليه في تقرير أغلب علومهم الخاصة بهم، وبالغوا في ذلك مبالغة عظيمة، حتى جعلوا الكشف بمنزلة الوحي مع فروق يسيرة، فبالكشف ترفع الحجب عن عين الصوفي وقلبه، فيطالع ويعلم ما في السماء والأرض جميعا، وأهل السنة وإن كانوا يقرون بالكشف والإلهام ، إلا أن بين الكشف الشرعي السني والكشف الصوفي البدعي فروقا كبيرة وكثيرة، سواء في حقيقة الكشف أو في مدى حجيته ودلالته، فالكشف الصوفي -الذي يعتبر الغزالي أحد مؤسسي مدرسته وكبار نظاره- في حقيقته متأثر بروافد فلسفية أجنبية عن الكتاب والسنة ، وإن سعى البعض لصبغها بصبغة الشرع.

تعريف الكشف

والكشف اصطلاحا له تعريفات متعددة ، كلها تدور على ارتفاع الحجب عن العين والقلب ، حتى يصير الغيب شهادة، فعرفه بعضهم بقوله :” هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجودا وشهودا “، وعرفه آخرون بقوله :” المكاشفة: مهاداة السر بين متباطنين ، وهي في هذا الباب بلوغ ما وراء الحجاب وجودا”،ففكرة الكشف إذن قائمة على أن سبيل المعرفة إنما يكون برفع الحجب التي تحول بين النفس والاتصال بالحقيقة ، فكلما اجتهد العبد في إزالة هذه الحجب انكشفت له الحقائق الغائبة.

والكشف اسم عام تندرج تحته أنواع كثيرة ، لكل منها اسم يخصه ، فمنها :

أولا: الإلهام

وهو لغة ” أن يلقي الله في النفس أمرا يبعثه على الفعل أو الترك ، وهو نوع من الوحي، يخص الله به من يشاء من عباده”، واصطلاحا ” ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به، من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة”، ويطلق عليه كذلك العلم اللدني ، قال ابن القيم الجوزية :” والعلم اللدني هو العلم الذي يقذفه الله في القلب إلهاما بلا سبب من العبد ولا استدلال”.

ثانيا: الالتقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة والأخذ عنه

وهذا قد ادعاه كثير من كبرائهم ، قال الشعراني :” سمعت سيدي عليٌََا الخوّاص رحمه الله يقول : لا يكمل عبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم أي وقت شاء ، قال : وممن بلغنا أنه كان يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة من السلف الشيخ أبو مدين شيخ الجماعة والشيخ عبد الرحيم القناوي والشيخ موسى الزولي والشيخ أبو الحسن الشاذلي وغيرهم ، وألف السيوطي كتابا ينتصر فيه للقول بجواز وقوع ذلك، سماه (تنوير الحلم بإمكان رؤية النبي والملك).

ثالثا: الرؤى والمنامات الصادقة

وهذه من صور الإلهام الشرعي الثابتة، كما جاء في الحديث:” الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة”، وإن كان الصوفية يغالون فيها ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

رابعا: الفراسة

وهي خاطر يهجم على القلب ، فينفي ما يضاده، وكل من كان أقوى إيمانا كان أحدٌَ فراسة ، ومن أشهر من وصف بها الإمام الشافعي رحمه الله ، وله في ذلك حكايات مشهورة ، فهذه أنواع تدخل كلها تحت مصطلح الكشف ، ومنها ماهو شرعي ، ومنها ماهو بدعي ، كما سيتضح إن شاء الله.

موقف أهل السنة من الكشف والإلهام

ربما يظن البعض أن أهل السنة لا يثبتون الكشف والإلهام مصدرا للمعرفة والوصول للحقيقة ، وربما يكون ذلك بسبب غلو أكثر الصوفية في هذا الباب، كما فعلوا في باب الكرامات عموما؛ مما ربط هذه المصطلحات في أذهان الكثيرين -خاصة من المثقفين المعاصرين- بالدجل والخرافة والشعوذة ، ولا شك أن الكشف الصوفي يصح وصفه بذلك ، بخلاف الكشف الشرعي السني ، وأهل السنة يثبتون الكشف والإلهام سبيلا للمعرفة تابعا للكتاب والسنة وليس مستقلا، وهو عندهم من جملة الكرامات التي يقر بها أهل السنة في حق الأولياء ،وهذه الكرامات منها ماهو جنس القدرة والتأثير، ومنها ماهو من جنس العلوم والمكاشفات .

الفرق بين الكشف عند أهل السنة وعند الصوفية

يختلف الكشف الصوفي البدعي عن الكشف السني الشرعي في حقيقته، ودرجة ثبوته، ومدى حجيته، ومنزلته، ودلالته على الكرامة ، وطريق الوصول إليه، فهذه ستة فروق،ودونك التفصيل :

أولا : تأثر الكشف الصوفي البدعي بالفلسفة الغنوصية

تأثرت نظرية الكشف الصوفي بمعتقدات الفلاسفة القدماء وتصوراتهم، ومن المعلوم أن أبا حامد الغزالي كان متأثرا بشدة كلام الفلاسفة، وأسس مذهبه الإشرافية ونظريته في الكشف على كلامهم،قال الغزالي ” وأما التعليم الرباني فيكون على وجهين ، أحدهما : من خارج وهو التحصيل بالتعلم، والآخر : من داخل وهو الاشتغال بالتفكر، والتفكر من الباطن بمنزلة التعلم في الظاهر، فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئي ، والتفكر استفادة النفس من النفس الكلي، والنفس الكلي أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العلماء والعقلاء …”، فهذا تأثر واضح بنظرية الفيض الفلسفية وهذا للأسف كان له أسوأ الأثر في تسرب كلام الفلاسفة لطوائف المسلمين، دون أن يعلموا أصول هذا الكلام.

ثانيا: الكشف والإلهام عند أهل السنة لا يوثق بصحته ولا يجزم به ، بخلاف الكشف الصوفي البدعي

أهل السنة وإن أثبتوا الكشف إلا أنهم لا يحزنون بأن مايقع في نفس الواحد يكون إلهاما شرعيا، بل ربما يكون كشفا شيطانيا، أو حديثا النفس ، قال ابن تيمية “وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى ، كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد، ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يزنوا مواجيدهم ومساعدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يكتفوا بمجرد ذلك؛ فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب؛ وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه”، فالكشف والإلهام ظني في ثبوته ، وأما الكشف عند الصوفية فإنهم وإن أقروا باحتمال الخطأ في الإلهام، وحذروا مريديهم من الركون والتسليم لما يرد عليهم ، إلا أنهم جعلوا للولي المتحقق من ولايته الجزم بما يرد على قلبه.

ثالثا: الكشف والإلهام ليس حجة مستقلة عند أهل السنة ، ولا مصدرا من مصادر التشريع ، ولا يستدل به، ولكن قد يستأنس به في الترجيح عند تكافؤ الأدلة في نفس المجتهد

قال أبو إسحاق الشاطبي بعد أن بين أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإلهامه معصوم : ” وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم، بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حلما، وكشفه غير حقيقي..”، وأما عند الصوفية فإنهم يعتمدون على الكشف اعتمادا عظيما جدا، فمن أمثلة ذلك ،تصحيح حديث إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامهما ، فقد صححه بعضهم اعتمادا على الكشف ، جاء في تحفة المريد للشيخ إبراهيم اللقاني الصوفي المالكي المصري:” ولعل هذا الحديث صح عند أهل الحقيقة بطريق الكشف”، وكذلك عامة الأذكار والأوراد البدعية يستند الصوفية فيها لنوع من أنواع الكشف ،وبهذا كان الكشف عند غلاة الصوفية مستندا لعامة البدع والمحدثات.

رابعا : في الوسيلة الموصلة للكشف

الطريق للكشف عند غلاة الصوفية طريق مبتدعة ، قائمة على المجاهدات والرياضات المحدثة، كالخلوة والانقطاع عن الناس، والجوع الشديد المبالغ فيه، وكذلك السهر، مع ملازمة أوراد بدعية، وذكر بألفاظ محدثة ؛ كالذكر باللفظ المفرد (الله) والمضمر (هو) بأعداد محددة لم يرد بها دليل من الشرع.

خاتمة:
ما سبق ذكره يؤكد أن غلاة الصوفية اعتمدوا على الكشف والإلهام اعتمادا كبيرا جدا، ووثقوا به وعظموه أكثر من أدلة الشريعة وعلومها، بل ربما نظروا لعلوم الشريعة نظرة دونية؛ باعتبارها علوما ظاهرة لا توصل للحقيقة واليقين، حتى قال أبو يزيد البسطامي:” خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله”، وهذا كله بخلاف الطريقة المحمدية السنية الجامعة بين الشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن، ويتوافق فيها نور الفطرة مع نور العلم والوحي.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.