ذ. محمد جناي
من المسلم به أنه يستحيل أن تستغني أية أمة عن الإفادة من حصيلة تراثها في مجال الفكر أو الفن أو السلوك مهما تناءى عنها زمن التراث أو طال عليه العهد، وتتفوق الأمم حقيقة بمقدار نجاحها في وصل الماضي بالحاضر وصلا منطقيا ووجدانيا في صورة متسقة لا تخرجها عن لحظة الحاضر ، ولا تميعها في زحمة الفكر الغامر، فالأمة التي يحمل فكرها طابع الأصالة بامتداد جذوره إلى الماضي البعيد، وتعبيره عن ذاتية متفردة، كما يحمل نبض الحياة المعاصرة عن هذه الأجيال في نسق منسجم ومثمرة ، جديرة بأن تتفوق في المجالات المختلفة لأنها أمة لم تفقد أمسها ، ولم تخسر يومها ولم تغفل غدها.
لا جدال في أن الإسلام بما رسم من منهج، وما قدم من حقائق، وما عرض من حوافز، وما بسط من قضايا، وما ضرب من أمثال، وما أبدع من تشريع، وما قص من قصص، وما ناقش من مشكلات، قد هيأ أنسب الأجواء والفرص للقرائح والمشاعر وأنماط السلوك أن تؤتى أكلها وأن تبرز ثمارها نحو استجلاء أسرار الكون ، واستطلاع آثار وصفات المكون جل جلاله، أما استكناه أسرار الكون فقد شمل كافة العلوم الطبيعية والإنسانية على النحو الذي عرضه علماء المنهج وأرباب التصانيف، وأما استطلاع آثار وصفات المكون عز شأنه فقد غطى الجانب الميتافيزيقي الغيبي الذي يبدأ مع نهايات هذا العالم المحسوس.
لهذا نجد القرآن الكريم لعب دورا هاما في نشأة الفلسفة الإسلامية حيث دعا إلى تحكيم العقل واستعماله، كما ناقش العديد من الأفكار الفلسفية المختلفة بداية من خلق الكون إلى الطبيعة الإنسانية إلى غايات وأهداف الوجود وغيرها وسنذكر باختصار ما قدمه القرآن من تدعيم وترسيخ للتفكير الفلسفي لدى العرب والمسلمين ومنها :
أولا :دعوة القرآن إلى التفكير
دعا القرآن الكريم إلى التفكير والتأمل في كل ظواهر الكون التي تحيط بنا وعرضها وفصل في بعضها بهدف الوصول من الوجود المادي الذي يحيط بنا إلى حقيقة وجود الله الغير مادي والغير متناهي، أيضا أدلى القرآن بدلوه في أمور كثيرة تخص النفس البشرية وطبيعتها وأقسامها ، كل ذلك الخطاب الذي يتناول قضايا فلسفية خالصة كان مقدما للجميع من العرب وللمسلمين منهم خاصة مما ساعد على انتشار طرق التفكير الفلسفي والبحث والجدال والحديث عن القضايا الفلسفية.
ثانيا: ناقش القرآن الكريم موضوع الإلهيات
من مباحثه الفلسفية الثلاث الكبرى الله والمروة والسمعيات، وعرض تلك القضايا بصورة عقلية فلسفية أكثر منها تصديقية إيمانية بحثة، فحين أراد القرآن أن يثبت وحدانية الله أثبتها بالطريقة الفلسفية كما جاء في الآية :” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا”، هنا قدم القرآن دليلا منطقيا فلسفيا على الوحدانية ولم يكتفي بمجرد التصديق والإيمان البحث دون الحجة والبرهان العقليين، هكذا أدخل الإسلام على العقل العربي طريقة جديدة في التفكير وهي الحجة والبرهان المنطقي مما ساهم في انتشار طريقة التفكير الفلسفي عند المسلمين.
ثالثا: مجادلة القرآن للآراء المخالفة بالحجج والإستنباطات الفلسفية
جادل القرآن الكريم العقائد الأخرى المتواجدة بمنطق الإقناع الفلسفي والمنطقي، وكان هذا خير داعما لقيام نهضة فلسفية عربية وإسلامية، فتحدث القرآن الكريم مواضع عديدة عن أصحاب المعتقدات غير التوحيدية ، فرد على المشركين والصابئة وغيرهم، كما رد أيضا على بعض مناطق الخلاف بين الديانات السماوية الأخرى اليهود والنصارى.
كما أن القرآن كان حريصا على إنصاف أتباعه بالجدال الفلسفي وليس الجدال العقيم الغير منطقي، حيث قال ” وجادلهم بالتي هي أحسن” وتلك دعوة إلى سعة الأفق ودعوة إلى قواعد المناقشة والجدال البناء ، لتلك الأسباب وغيرها أصبح العرب المسلمين مهيئين إلى التفلسف والتفكير المنطقي ، ومن هنا وإنطلاقا من القرآن الكريم كانت نشأة التفكير الفلسفي وساهم في ذلك أيضا عدة عوامل أخرى مثل : الخلافات بين المسلمين أنفسهم، والاحتكاك بأصحاب العقائد المخالفة ، وأيضا التوسع في الدولة الإسلامية والفتوحات ومع الترجمة ونقل العلوم من الحضارة الإغريقية.
إن الدين الإسلامي لم يأت رافضا لكل العقائد السابقة عليه، كما أنه لم يأت موافقا كل الموافقة هذه الثقافات والديانات السابقة عليه في كل ما جاءت به وما قالته، لقد وافقها حينا واختلف معها حينا ، ومن هنا يبرز أن الاتفاق بين الدين الإسلامي وبين غيره من ثقافات وديانات لم يكن اتفاقا مطلقا ، كما أن الاختلاف بينه وبينها لم يكن اختلافا مطلقا ، فثمة أوجه شبه وأوجه اختلاف، لكنه جاء لكي يصحح بعض المفاهيم الخاصة بالعقيدة المسيحية واليهودية ويعطي بعدا آخر للعلاقات الإنسانية ، جاء لكي يرشد العقل الإنساني ويكشف له الطريق ويصحح له مساره ويبين له الغث من الثمين، إنه جاء هادئا ولم يأت مضلا، جاء بانيا ولم يجئ هادما ، وقد نص القرآن على ذلك كله .
وكمثال نجد الكندي ( 185ه- 253ه)، الذي يعد من الفلاسفة البارزين في تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي،ذلك أنه أول فيلسوف عربي مسلم وقف على الفلسفة اليونانية وأفاد منها وحاول أن يلبسها ثوبا إسلاميا خالصا، ذلك أنه مع إعجابه الكبير بالفلسفة اليونانية إلا أن إيمانه بالدين الإسلامي كان أكبر بكثير من إعجابه بالفلسفة اليونانية، وهذا يعني أنه لم يرفض الفلسفة اليونانية كلية ولم يؤمن بها كلية، حيث قد وافقها حينا واختلف معها أحيانا أخرى، أي أنه اختار الحل الوسط وهو محاولة التوفيق بين الفلسفة اليونانية وبين الدين الإسلامي.
ولهذا حرص الكندي على بيان ماهية الفلسفة بقوله هي البحث أو إن شئت النظر العقلي الخالص الذي يهدف إلى كشف الحقيقة والوصول إليها، والفلسفة في هذا شأنها شأن الدين، لأن الدين يؤدي بالإنسان إلى الوقوف على حقائق الأشياء، أي أن الكندي يهدف من تعريفه الفلسفة أن يوضح أنه ليس تمثة تعارض بين الفلسفة والدين ولهذا يقول عن الفلسفة :” أنها أجل الصناعات الإنسانية منزلة ، وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة التي حدها بقوله : «علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان،لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق».
فالفلسفة الإسلامية هي البحث في الكون والإنسان في ضوء التعاليم الدينية التي نزلت مع ظهور الإسلام ،فحين ظهرت الفلسفة في الإسلام ، وجرت هذه اللفظة في اللسان العربي ، ونمت وازدهرت وبرز الفلاسفة من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم ، وألف المؤرخون الكتب التي تدون سيرهم وآراءهم ، أطلق هؤلاء المؤرخون عليهم اسم فلاسفة الإسلام ، أو الفلاسفة الإسلاميين، أو حكماء الإسلام ، فيما جرى على ألسنة الشهرستاني أو القفطي أو البيهقي وغيرهم، ومن أجل ذلك قال الشيخ مصطفى عبد الرزاق في كتابه” تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” :« إن هذه الفلسفة قد وضع لها أهلها، اسم اصطلحوا عليه، فلا يصح العدول عنه، ولا تجوز المشاحنة فيه»، ثم يخلص من ذلك إلى قوله « ونرى أن نسمي الفلسفة التي نحن بصددها كما سماها أهلها، فلسفة إسلامية ، بمعنى أنها نشأت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، من غير نظر لدين أصحابها ولا لغتهم».
غير أن السؤال الذي يواجهنا في عصرنا الراهن هو على الشكل الآتي: هل يمكن للفلسفة الإسلامية أن تساعدنا في فهم أنفسنا أكثر، حياتنا اليومية، خطابتنا المتبادلة، أدمغتنا أو«عقولنا»، وبالتالي تفتح أمامنا أفقا للبحث عن أجوبة لإشكالات مختلفة وشائكة تقارب قضايا أفعال الذات وطبيعة هويتنا؟ وحتى لا يبدو لنا أن مستقبل الفلسفة الإسلامية منفصلا عن تاريخها، أو خارج تاريخ الحقيقة.
إننا نريد من فكرنا الإسلامي أن يمدنا بمقومات اليقظة وإعادة صنع الحياة وفق ذاتنا الأصيلة وواقعنا المعاصر، إننا نريده دائما فكر مستوعبا شاملا ومؤمنا رائدا، لا يشكو الخمود والجمود والآلية، ولا يخلو من نبض الحياة وصدق المشاعر، كما نريد لوجداننا ألا يكون خاوي المضمون أشبه بالاندلاع الشعوري الهائج المتشنج.
نريد فكرا تنسجم فيه الطاقات والملكات والكفايات، ووجدانا عامرا بثراء الفكر وعمق المضمون، لا نريد في عرض تاريخ الفكر الإسلامي أن نقف عند العصر الذي جرت عادة المؤرخين أن يقفوا عنده، بل نريد له استمرارا وإنهمارا في مسارات مهتدية معبرة عن ذاتنا وكياننا الذي اكتسب بالإسلام سعة وعمقا.
إن تأمل الصفات والشروط التي اشترطها فلاسفتنا للمشتغلين بالفكر تجعلنا نزداد ثقة في إمكان بث فكرنا النقي، لقد عدد الرازي سجايا الفيلسوف أو المفكر ، فكان منها: “لزوم العدل والعفة والإقلال من مماحكة الناس ومجادلتهم، ولزوم الرحمة والنصح والمحبة للناس، هي فضائل خلقية إلى جانب الصفات العقلية التي تعتبر وسيلة الفكر وعدته.
إن الفيلسوف المؤمن أشد ولاء وأكثر وفاء بحق النظرة الفلسفية من الفيلسوف الملحد أو الفيلسوف الشاك، إن إلحاد بعض الفلاسفة يعتبر ثمرة نهج خاص من التفلسف الذي أسكرته الحرية الزائفة، وإنما كانت زائفة لأنها مظهرية ، وإلا فهي في الحقيقة أسيرة فكرة معينة وهي الطرف المقابل.
وصفوة الكلام ، أن ما يجب أن نبذله هو التأمل في واقعنا المعاصر موصولا بمقومات الأصالة الموروثة المنقاة في إطار التنسيق بين كفاياتنا العقلية والوجدانية والسلوكية ، حتى يستطيع إلى جانب ذلك أن يحلق في آفاق الجمال والفن ليرسم لنا أصول تربية جمالية وفنية منبثقة من الإسلام نصا وروحا، فما أحوجنا إلى أصول هذه التربية ورسم إطارها الفكري ووسائل تطبيقها،ويكون في ذلك في حد ذاته ردا عمليا على تخرصات الظالمين بإنفصال الإسلام عن مجال الفن والجمال ، مع أن ديننا التأمت فيه الوحدة التنسيقية بين قيم الحق والخير والجمال بصورة لم تكفل لأي نظام وضعي أو سماوي مشوب.
ـــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1): في الفلسفة الإسلامية دراسة ونصوص ، محمد كمال إبراهيم جعفر،الطبعة الأولى 1986، مكتبة الفلاح ، الكويت.
(2): الفلسفة الإسلامية في المشرق، تأليف د. فيصل بدير عون، دار الثقافة للنشر والتوزيع- القاهرة- .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17179