الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
منذ أن بزغ فجر الإسلام في ربوع المغرب، تشكلت علاقة فريدة بين الدين والدولة، علاقة قوامها البيعة الشرعية للإمام، وانبنت على إدراك عميق بأن الدين، في جوهره، دعوة إلى الإصلاح والوحدة، لا إلى الفتنة والتفرق. وقد جاءت مؤسسة إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية، التي يتولى رئاستها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، لتجسد هذا المعنى في أرقى تجلياته؛ حيث تمثل هذه المؤسسة الضمانة الكبرى لوحدة المغرب المذهبية، وحارسة لهويته الدينية، ساهرة على تنزيل مقتضياتها في العقيدة والفقه والسلوك، تحقيقًا لمقومات الحياة الطيبة، وتسديدًا للتبليغ، حتى يكون تدين المغاربة وسطًا ووسطيًا، كما قال تعالى في كتابه العزيز: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”.
لقد ظل المغاربة، منذ أن بايعوا الإمام إدريس بن عبد الله، (ولد عام 127 هـ 743 م وتوفي عام 177 هـ 793 م) . متمسكين بمبدأ البيعة الشرعية للإمام، يدينون له بالطاعة في غير معصية، ويجعلونه المرجع الأعلى في شؤون دينهم ودنياهم، ولم تكن إمارة المؤمنين يومًا مجرد لقب سياسي؛ بل كانت على مرّ العصور تكليفًا شرعيًا ومسؤولية عظيمة في الذود عن ثوابت الدين، وصون الأمة من التيه والانقسام، وتحصينها من الفتن العقدية والمذهبية التي عصفت بكثير من الأقطار الإسلامية. وقد توارثت الأسر الحاكمة هذا الإرث الثقيل، وتعهده ملوك الدولة العلوية الشريفة بالرعاية والتجديد، إلى أن بلغ في عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله أوجه النضج والحكمة، مستندًا إلى العمق التاريخي والشرعي لمؤسسة إمارة المؤمنين، ومنفتحًا في الوقت ذاته على تحديات العصر ومستجداته.
والمغرب، في خصوصيته المذهبية، ظل وفيًا لاختياراته الكبرى التي شكلت عناصر قوته الروحية، ووحدته المذهبية، وهي العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني، والاجتهاد المنفتح على العصر، والارتباط بالبيعة الشرعية.. وقد أثمرت هذه الاختيارات نموذجًا دينيًا فريدًا في العالم الإسلامي والعربي، يتميز بالتوازن، والرحمة، والاعتدال، فهذا التميز جنّب المجتمع المغربي الوقوع في مهاوي التطرف والغلو والتشدد، ومنحه تديّنًا قائمًا على المحبة لا الكراهية، وعلى التعايش لا الصدام، وعلى التواضع، لا التكبر .
وفي هذا السياق، اضطلع أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، بدور محوري في ترشيد التدين المغربي، مستندًا إلى سلطته الدينية التي يخولها له الدستور المغربي، بصفته “أميرًا للمؤمنين وحاميًا لملة الإسلام”، فعمل حفظه الله على إعادة هيكلة الحقل الديني بشكل يحقق الأمن الروحي، ويصون المرجعية الدينية الوطنية، ويمنع تسرب الأفكار الدخيلة أو المتشددة، وقد أولى جلالته عناية خاصة لتكوين العلماء والأئمة والمرشدين، فأنشأ معهد محمد السادس لتكوين الأئمة، ليكون قبلة للعلماء من داخل المغرب وخارجه، ويسهم في تخريج نخبة دينية مؤهلة فكريًا وعلميًا وتربويًا، تنشر الإسلام كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم: دينًا للرحمة، لا للغلظة، ودينًا للهداية، لا للإكراه.
ومن أبرز تجليات العناية المولوية بالشأن الديني، ما تحظى به الدروس الحسنية الرمضانية من رعاية ملكية سامية، حيث يجتمع فيها العلماء من شتى بقاع العالم الإسلامي في حضرة أمير المؤمنين، لتدارس قضايا العقيدة والفقه والسلوك، في جو من التقدير العلمي والحوار الراقي. كما يشرف جلالته حفظه الله على سير عمل المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، التي تسهر على ضبط الفتوى وترشيد الخطاب الديني، بما يتوافق مع ثوابت المملكة وهويتها الدينية.
إلى جانب ذلك، تأتي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين، لتؤدي دورها في تأطير المساجد وتكوين الأئمة والخطباء والمرشدات، ونشر الوعي الديني الرصين، كما تشرف على طبع المصحف المحمدي الشريف، وتنظيم الحج، ونشر الثقافة الإسلامية وفق الرؤية المغربية المعتدلة، وتتكامل هذه الجهود مع ما تقوم به الرابطة المحمدية للعلماء من أبحاث ودراسات ومبادرات علمية تروم تجديد الفكر الديني، وتصحيح المفاهيم، وتفكيك خطاب التطرف.
وقد امتدت العناية الملكية بالتدين الوسطي المغربي إلى خارج حدود المملكة، عبر مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي تعمل على تعزيز روابط التعاون الديني والعلمي مع الدول الإفريقية، وتصدير النموذج المغربي المعتدل في التدين، ما جعل المغرب مركزًا روحيًا إفريقيًا بامتياز. كما تساهم قناة محمد السادس للقرآن الكريم في نشر هذا التدين الرشيد داخل المغرب وخارجه، ببرامجها المتنوعة التي تزاوج بين التعليم والتثقيف، وبين التزكية والاعتدال.
وبفضل هذه الرؤية المتكاملة، التي يقودها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، أضحى المغرب نموذجًا في الأمن الروحي، والاستقرار العقدي، والانفتاح الديني، في عالم يشهد اضطرابات فكرية وعقائدية متسارعة. وقد أدركت مختلف المؤسسات الدولية أهمية هذا النموذج، فصار يُستدعى ويُحتذى به في محافل الحوار الديني العالمي، ومبادرات مكافحة التطرف العنيف، مما يؤكد صواب الاختيار المغربي في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين العقل والنقل، وبين التشبث بالثوابت والانفتاح على المتغيرات.
وهكذا، فإن مؤسسة إمارة المؤمنين، بقيادة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، لا تزال تؤدي دورها في حفظ التدين المغربي من التسيب والانغلاق، وتوجيهه نحو ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، مستلهمة في ذلك الهدي الرباني: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”، حتى تظل الأمة شاهدة على الناس، رحيمة بهم، داعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، معتزة بإسلامها، متشبثة بوحدتها، مستظلة بجلباب إمامها، أمير المؤمنين، حفظه الله وأيده ونصره وأطال في عمره.