17 يوليو 2025 / 15:31

مأساة البشرية.. حين يتقوَّل الإنسان على الأديان

لحسن عدنان

حين يقول شيخ أو كاهن أو داعية “الدين قال” هل يكون الدين فعلا هو من قال؟ أم أنهم، في أغلب الأحيان، يحمّلون النصوص الدينية أوزار أهوائهم، ويسقطون عليها قناعاتهم الشخصية، ويخضعونها لثقافتهم وتربيتهم بل وعُقدهم النفسية؟ أليس من السهل جعل الدين ناطقًا بأسماء الكهنوت والمشايخ، بدل أن يبقى متسما بطهرانيته وتساميه ونبل مقاصده؟ لماذا تسخير الاديان للمصالح الشخصية والقومية والمذهبية والطائفية بدل ان يبقى الدين غذاء للأرواح ومنبعا للقيم وخير وسيلة لبناء جسور الاخوة والتعاون وما فيه خير الانسان؟

إن ما يسمى “فهمًا دينيًا” ما هو في الحقيقة إلا تأويل بشري للنصوص، تأويل يتم عبر اللغة، واللغة بدورها تمر من مصفاة العقل، والعقل البشري ليس أداة خالية من النقائص والاختلالات والشوائب، بل هو محكوم بثقافتنا، وعاداتنا، ومعتقداتنا، وتجاربنا، وأحيانًا بمخاوفنا وانكساراتنا وأنانياتنا وأمراضنا النفسية ونقائصنا كبشر. لذلك، حين يقول الإنسان “الدين يأمر بكذا”، فهو في الغالب لا ينقل عن الدين، بل يعيد إنتاج ذاته في هيئة فتاوى وتعاليم ووصايا ومواعظ.

النصوص الدينية ليست ناطقة بذاتها، بل هي منطوق بها. إنها نصوص صامتة إلى أن يقرأها إنسان، ويؤولها، ويُلبسها من معناه ما يشاء. وهذه الحقيقة تفتح بابًا خطيرًا على مصراعيه: باب التأويل المتحيّز، الذي يُلبس كلام الله لباسًا قبليًا أو مذهبيًا أو سياسيا أو عرقيا أو طائفيا، ويستخدمه كسلاح يُشهره في وجه الآخر المختلف. وكم سالت من دماء، وسُفكت من أرواح، وتفجّرت من حروب، فقط لأن جماعة ما ادّعت أنها تملك التفسير “الحق” للدين، وكل من سواها على ضلالة.

الفكر الفلسفي والعقلي يعلّمنا كثيرا من التواضع والنسبية في التعاطي مع كل المواضيع، وخاصة ما يتعلق بفهمنا للنصوص الدينية. ويعلمنا أن الحقيقة لا تُفرض، من أعلى، ولا تنبع من يقين نهائي، بل هي ثمرة مساءلة دائمة، وشك منهجي، ونقاش مفتوح، واعتراف بحدود الفهم البشري. بتعبير آخر: “الفهم الديني لا يمكن أن يكون خارج التاريخ، وكل تأويل هو إنتاج بشري مشروط بظروفه”.

هذه المقولة تحطم وهم الحياد والموضوعية، مطلقة كانت أو حتى نسبية، في القراءات الدينية، وتعيدنا إلى الحقيقة الكبرى: أن الإنسان، حين يفسر النص الديني، فإنه يتكلم عن نفسه ورؤيته وثقافته أكثر مما يتكلم عن الدين وحياديته ومقاصده السامية او التي ينبغي ان تكون وتبقى سامية، لا تتلطخ ولا تختلط بتفاسير العباد مهما ادعوا التقوى والحياد.

لذلك، فإن أكثر ما يحتاجه الإنسان، خاصة في عالمنا المعاصر، في علاقته بالدين، ليس مزيدًا من التفاسير والتأويلات والقراءات، بل مزيدًا من الاخلاص بينه وبين الله وكثيرا من الوعي بذاته ومسؤوليته الفردية. فالمشكلة ليست في النص كنص، بل في القارئ كإنسان له نزعاته وميولاته وولاءاته وثقافته ونقاط ضعفه أيضا وأمراضه. وحين نُحمّل النص ما لا يحتمل، ونُحوّله إلى ذريعة لممارسة التكفير أو الكراهية أو القمع أو التسلّط أو الإقصاء، فإننا لا نخدم الدين، بل نُسيء إليه.

لقد تحوّل الدين، في أيدي البعض، إلى خطاب غضب وعنصرية وانتقام، لا إلى رسالة محبة ورحمة وسلام. وهذا الانحراف لم يكن يومًا من روح الدين، بل من جهل الإنسان ونكوصه وأهوائه المتضاربة.

إن ما يُسمّى بالتطرّف الديني ليس تطرفًا في الإيمان، بل هو تطرف في التفسير والتأويل. حين نقرأ النصوص الدينية بعقل مشحون بالخوف والعداء والاستعلاء، سنُخرج منها ما يُبرّر القتل، والفتنة، والتكفير، وسبي النساء، وقهر الإنسان. لكن لو قرأناها بروح إنسانية تنويرية ونورانية، بعقل متوازن، ووجدان نقي، لرأينا فيها ما يُحرر الإنسان، ويُعلي من كرامته، ويُنمي فيه الخير والحكمة.

هذا ما ذهب إليه أحد أئمة الحب الإلهي جلال الدين الرومي حين قال: “الدين الحقيقي هو المحبة، وما عداه لبوسٌ بشريٌّ يشبه العباءة ولا يشبه الروح”.

فالدين، في جوهره، علاقة بين الإنسان وربه، لا بين الإنسان والسلطة، أو بين الإنسان ورجل الدين. وكل محاولة لتحويل الدين إلى مؤسسة ناطقة باسم الله، تُحوّله إلى أداة هيمنة وتسلّط وظلم وقهر.

 

لكن هل يكفي أن نقدم تفاسير وقراءات دينية معاصرة “عقلانية” أو “إنسانية” كي نواجه كل هذا الركام من التفسيرات المتطرفة والظلامية للدين؟ للأسف الجواب: “لا”.

لأن كل تفسير، حتى وإن بدا عقلانيًا وموضوعيا ومستنيرا، يبقى في كثير من تفاصيله محكومًا ببنية القارئ الفكرية، وتكوينه النفسي والاجتماعي والثقافي. ولذلك، فإن الحل لا يكون فقط في إنتاج خطاب ديني جديد، بل في تغيير بنية الإنسان نفسه. وتربيته على الحب والتواضع المعرفي والإيمان الحقيقي بقيم الخير والصلاح وأن الله رحمة مطلقة وعدل وخير.

فالإنسان الذي يقرأ بعقل مؤدلج ضيق ومريض، سيحوّل حتى أنقى النصوص إلى أدوات موت. أما الإنسان المتحرر من عقده، المتصالح مع ذاته، فهو الذي يُنقذ النص من سطوة التأويل المريض.

هنا يجب التأكيد وإعادة التأكيد على ضرورة التأهيل التربوي والفكري للأفراد جميعهم. لا بد أن نربّي الناس على مساءلة أنفسهم، على الشكّ المنهجي النبيل، على الاعتراف بأنهم محدودون وقاصرون ومعارفهم غير مطلقة، وأنهم ليسوا ناطقين باسم الله، ولا أوصياء على الحقيقة. “فالدين في الاصل يجب ان يكون نقيّا، لكن فَهمنا له يتلوث بثقافتنا وموروثنا وعقدنا.”

يجب أن يتحمل كل انسان مسؤوليته في فهمه وعمله بأوامر الدين، لا ان يكون فردا في قطيع، ويجب القطع مع كل صفة تربط بين الانسان والدين من قبيل رجل دين، داعية، شيخ او كاهن بصفة عامة، هذه الصفات هي بمثابة جوازات تمنح اصحابها الجرأة على التحدث باسم الدين، أو إصدار الأحكام على الناس باسم ربهم.

إن أخطر ما وقع في التاريخ الإنساني، هو حين رُفع السيف باسم العقيدة، وحين أقيمت المشانق باسم الدفاع عن الله.

لم تُقتل “الهرطقة” باسم الحقيقة الدينية، بل قُتلت الحقيقة نفسها باسم تفسيرات ضيقة للدين.

لم يُحارب “الكفر” والفسوق، بل حورب العقل والمنطق، وحوربت الحرية، وحوربت كرامة الإنسان.

الذين يتقولون على الدين لا يدركون أنهم يرتكبون أكبر جرم في حقه، حين يجعلونه مطيّة لمصالحهم، أو سلاحًا في صراعاتهم، أو أداة في تثبيت سلطاتهم. وهؤلاء لا يقلّون خطرًا عن الذين يُنكرون الدين كليًا. فالذين ينكرون الدين يفعلونها عن قناعة فكرية، أما هؤلاء فيدعون أنهم ينطقون باسم الله وهم ينطقون عمليا وفعليا باسم الشيطان.

من أجل ألا يستمر كل هذا او بعضه، ومن أجل الوفاء لأرواح الملايين الذين سقطوا باسم تفسيرات منحرفة، و من أجل ألا تضيع الدماء التي سالت في الحروب الدينية والمذهبية وألا تهدر دماء جديدة، من أجل ألا توأد الطفولة باسم تطبيق تعاليم الدين، ومن أجل ألا تقمع المرأة خاصة وتجلد باسم تعاليم السماء، من أجل ألا يكفر أو يفسق أي إنسان لأنه يسأل أو يشك أو يراجع آراء الكهنوت، يجب ان يبقى الدين في مكانه الطبيعي: في القلب، في الضمير، في القيم، في الأخلاق، وليس عصا في ايدي المتسلطين، ولا سلطة فتاوى في ايدي فقهاء السوء، ولا صكوك غفران بأيدي سدنة محاكم التفتيش.

علينا أن نفهم أن الاصل هو بناء وتقديس الانسان، وهذا لا يتم الا بتغيير تفكيره ورؤيته لنفسه، فمن يُغيّر أفكاره، تتغير تفسيراته ورؤيته وتدينه، وأن تأويل النصوص لن يجدي ما لم نُغيّر البنية الفكرية والنفسية للإنسان القارئ.

الدين ليس ما في الكتب والاشرطة فقط، بل هو ما في القلوب والوجدان والضمائر الحية.

ومن يقرأ نصًا، عليه ان يتواضع قليلا، ويعرف أنه قرأه بعينيه البشريتين اللتين سيأكلهما دود الارض، ولم يقرأه بعين الله.

ليس القصد تجريح أحد، او التقول على اي كان، بل هي دعوة للفهم او على الاقل محاولة الفهم السليم، ودعوة للتواضع، وللكفّ عن التقول على الدين، ولترك مساحة من الحرية والإيمان، الصادق، الصامت بين العبد وخالقه، والمتحرر من الضجيج، والمحصّن ضد التسييس والتوظيف.

فالدين، في نهاية المطاف، ليس صراعا بين العباد، ولا درجة في التسلط على الخلق، ولا ايديولوجيا قهرية، بل علاقة بين الإنسان وربه، كلٌّ يفهمها على قدر معارفه ونضجه ونبله ونور قلبه وعقله، لا على قدر صراخ الخطباء ومزايدات الكهنوت.

وسلام على من اتبع نور قلبه، ونداء ضميره، وروح الله في اعماقه، ولم ينصب نفسه ناطقا حصريا باسم السماء كما يفعل الملايين جهلا وغطرسة. وقد شقيت البشرية بهم أكثر مما سعدت.