د. سمير عزو
عَمِل وزير العدْل المَغْربي عبد اللّطيف وَهْبي، على أنْ يتضمّن القانون المُرْتقَب لِمُدوّنة الأسرة، الإسْتِعانة بِفَحْص الخِبْرة الجِينِية (أَ دِي إنْ)، لِتحْديد المَسْؤُول عن الحَمْل في حالة التّنازُع؛ و بالتالي ضَمان حُقوق الأمّهات والأطفال.
هذا المُقْترَح الذي تقدّمت به الهيْئة المُكلّفة بمُراجعة مدوّنة الأسرة، قَسّم آراء المُواطنين و المواطنات إلى فريقين : أولئك الذين يرْفُضون أيَّ إثْباتٍ للنَّسب؛ خارِج إطار الزّواج الشّرعي، في مُقابِل الذين ٱعتبَروا قرار الرَّفْض؛ ٱنْتِكاسةً في طريق اللِّحاق بِآلتّطوّرات العِلمية الحديثة. فمِن مُنْطلق المُحافظين، “إذا خرَجت العلاقة بين الرّجل و المرأة؛ عن إطار عَقْد الزّواج الشّرْعي، لا يُمكِن حينئذٍ الحديثُ عن إثْباتٍ للنَّسَب” (1).
بينما ٱعْتبر آخرون “ٱعْتمادَ تحليل الحِمْض النّووي في مجال الجرائم دونَ إثبات النّسب، يُثير التّساؤل عن سبَب هذا الرّفْض، الذي يعْكِس تأثير بعض الجِِهات التّقليدية، التي لا تزال تتشبّث بنهْج قديم” (2).
و مهْما يكُن مِن حَال، فإِنّ قُطْبُ رَحى كلِّ هذا السِّجال، يدورُ حول حديثِ “الولدُ لِلْفِراش و لِلْعاهِرِ الحَجَر”(3)، حديث صَحيحٌ مُتَّفقٌ عليْه؛ وِفْقَ مَعايِير تحْقِيق المَرْوِيَّات لدى مدرسة أهْلِ السُّنّة و الجَماعة، مَقْصَدُهُ الحِفاظ على الأنْساب، و ذلك بإِلْحَاقِ الولَدِ بِأبيه، مالَمْ يَحْصُل بيْن الطَّرفيُن لِعَان.
لكن بِدورنا نتَسائَل؛ عَنِ المَانِع وراءَ اللُّجُوء؛ إلى الوَسائِل العِلميّة الحدِيثة، مِن أجل فضِّ المُنازَعات في إثْبات النّسب، بَدَل الإقْتِصار فقط على قَرينَة الفِراش و الشَّبَه ؟
لقد وردَ حديثٌ يَرْويه الحاكِم النّيْسابوري و ٱبن سَعْد و ٱبن كثير و اليَعْقوبي”؛ كما أوْرده الشّيخ الألباني في “السِّلْسلة الصّحيحة”، يُيَيِّنُ خُطورَة الإِشْتِبَاه في الشَّبَه، بِحيْث كان بِالإِمْكِان في واقِعة هذا الحديث، أنْ تُزْهَقَ رُوحٌ بِغَيْر حَقٍّ، فقَط لأنّ الشَّبَهَ حَلَّ محَلَّ البيِّنة (5)؛ فَعَن عائشة قالت : أُهْدِيَت مارِيَة إلى رسولِ الله صلى الله عليه و آله و سلّم؛ و معَها ٱبْنُ عَمٍّ لَها، قالت : فوَقَعَ عليْها وَقْعةً فٱسْتَمرَّت حَامِلاً، قالت : فعَزَلَها عِنْد ٱبنِ عَمِّها، قالت : فقال “أهْلُ الإِفْكِ و الزُّور مِن حَاجَتِهِ إلى الوَلَد إِدَّعَى ولَدَ غيْرِه”، و كانت أُمُّهُ قليلةَ اللّبَن فٱبْتاعَتْ لَه ضَائِنَةً لَبُون، فكان يُغَذّى بلَبَنِها فَحَسُنَ عليْه لَحْمُه، قالت : فدُخِل بِهِ على النّبي صلى الله عليه و آله و سلم ذات يومٍ، فقال : كيْف تَرَيِنَّ ؟ فقُلت: مَنْ غُذِّيَ بلَحْمِ الضّأْنِ يَحْسُنُ لَحْمُه، قال : و لا الشَّبَهْ ؟ قالت : فَحَمَلَنِي ما يَحْمِل النِّساءَ مِنَ الغَيْرَة أَنْ قلتُ : ما أرَى شَبَهًا، قالت : و بَلَغَ رسولُ الله صلى الله عليه و آله و سلّم ما يقولُ النّاسُ، فقال لِعَليٍّ : خُذْ هذا السّيْف فٱنْطَلِق فٱضْرِب عُنُقَ ٱبْنِ عَمِّ مَارِية حيْثُ وَجَدْتَه !، قالت : فٱنْطلَقَ فإِذا هُو في حائِطٍ على نَخْلة يَخْتَرِفُ رُطَباً، قال : فلَمّا نَظَر إلى عَليٍّ و معَه السّيْف ٱسْتَقْبَلَتْهُ رَعْدَةٌ، قال : فسَقَطَتِ الخِرْفَة فإِذا هوَ لَمْ يَخْلُقِ اللهُ عزّ و جلّ لهُ ما للرّجَال؛ شَيْءٌ مَمْسُوحْ” (4). فَلِمَ لمْ يَقُل النّبِيُّ صلَّى الله عليه و آله و سلّم؛ في هذهِ الحَال : “الولدُ للفِراش” !؟ و لِما غَضِبَ حتّى كادَت أنْ تُزْهَقَ روحٌ بريئةٌ؛ و حديثُه صلّى الله عليه يقول “لا تغْضَب !”(5)؛ ألَيْس النّبيُّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم “وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ”! سورة النّجم 3.
بيْنما يَثْبُتُ النّسَبُ الصُّلْبي (أيْ نَسَب الإبْن لأبِيه) في الفِقْه الجَعْفَري، بالبَيِّنة عنْ طرِيق شُهودٍ عُدول؛ كما يُمْكِن أنْ يَحْصُل بتَحْليل الحِمْض النّوَوِي، حيث يقول الشّيْخ صبَاح شُبَّر “إذا حصَل الإطْمِئنانُ فِي هذِه التِّقْنية؛ فإنّها تكونُ حُجّةً و يُؤْخَد بِها، ذلك أنَّ نِسْبةَ الخَطأ فيها؛ لا تتَعدّى سِتّةً في المَلْيون الواحد؛ و هذه نسْبةٌ جِدُّ ضَئِيلة”.
إنّ البيّنةَ الّتي تُلْحِقُ الإبْنَ بأبيهِ، ضروريةٌ شرْعاً إذْ يقول تعالى “أُدْعُوهُمْ لِآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوٓاْ آبَآءَهُمْ فَإِخْوَٰانُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَ مَوَٰالِيكُمْ” سورة الأحزاب 5، فأَوْجَبَ سُبحانه و تعالى في ذلك؛ إقامَةَ الحُجَّةِ فقال “ياأيُّها الذين آمنوا إنْ جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبإٍ فتبيَّنُوا أنْ تُصيبوا قومًا بِجَهالةٍ” سورة الحجرات 6، كما رُوِيَ عن ٱبن عبّاسٍ، أنَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه و آلهِ و سلّم قال : “لوْ يُعْطىَ الناسُ بِدَعْواهُم، لٱدَّعَى رِجالٌ أمْوالَ قوْمٍ و دِماءَهُم، لكنَّ البَيِّنَة علَى المُدَّعِي، واليَمِينُ علَى مَنْ أنْكَر”.
بِهذا يكونُ النّبيُّ الكريم، قدْ أسّسَ لِقاعدةٍ عظيمةٍ مِن قواعِد الشّريعة الإسْلامية، و أرْسَى أصْلاً مِن أُصُولِ الدّين؛ الذي فيهِ “لا يُقْبَل قولُ إنسانٍ فِيما يَدّعِيه بِمُجرّد دعْواه، بلْ يَحْتاج إلى بَيّنَةٍ، أو تصْدِيقِ المُدَّعَى عليْه” (6).
ـــــــــــــــ
(1) يمثّل هذا الموقف؛ الدكتور مصطفى بن حمزة؛ رئيس المجلس العلمي لجهة الشّرق.
(2) رأي الدكتور إدريس الكنبوري؛ الكاتب و الباحث في التّيارات الإسلامية.
(3) عن عائشة قالت “إختصمَ سعْد بن أبي وقاص و عبد بن زُمْعة في غُلام، فقال سعد : يا رسول الله هذا ٱبن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إليَّ أنّه ٱبنُه، أُنظر إلى شبَهِه. و قال عبد بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله، وُلِد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلى شبهه، فرأى شبها بَيِّنا بعتبة فقال : هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش و للعاهر الحجر. و ٱحْتجبي منه يا سودة فلم ير سودة قط. رواه البخاري (6750) و(6818) عن أبي هريرة.
(4) حديث رَواه الحاكم النّيْسابوري في كتابه “المُسْتدرَك على الصّحيحين” برقم 6821، و رُوِيَ في “الطَّبَقات الكُبْرى” لٱبن سعْد؛ الجزء الأول الصفحة 137، و في “البِداية و النّهاية” لٱبن كثير؛ الجزء الخامس الصفحة 326، و “تاريخ اليَعْقُوبي”؛ الجزء الثاني الصفحة 87، كما أوْرده الشَّيخ الألْباني في “السِّلْسلة الصّحيحة” تحت رقم 1904.
(5) الحديث السادس عشر؛ “الأربعون النّووية” : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيِّ أَوْصِنِي! قالَ : لا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرارًا، قالَ : لا تَغْضَبْ” رواه البخاري.
(6) الإمام النّووي الشّافعي (631هـء1233م / 676هـء1277م)، هو مُحدّث و فقيه و لُغَوي، إشْتهَر بكتابِه “الأرْبعين النّوَوية”، و يُلقّب بشيخ الشّافِعيّة