21 أكتوبر 2025 / 11:36

لوثة “الصَّنمية” وصلت لمُدَرِّسي المتون

د. الناجي لمين. أستاذ بدار الحديث الحسنية. الرباط 

أُذَكر بأن من أغراض هذه الصفحة أن أنبه الشباب على التمسك بدينهم الموروث، ومؤسساتهم العلمية الموروثة، وتجنب اتباع مَن يشذ عن هذا النهج، وأن يحيدوا عن تصنيم المعاصرين المغرورين.

فالذي يهمني هو المنهج وليس الموضوع: هل نتبع المؤسسات أو الأشخاص المعاصرين.

نشر بعض الشباب مقطعا لأحد الشيوخ الفضلاء من شيوخ ما يسمى التعليم العتيق يقول فيه إن لفظ (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)، تعبير فاسد.. وأن التعبير الصحيح: “ما شاء الله كان، وما شاء ألا يكون لا يكون”.

ولَمَّا وُوجه بأن هذا اللفظ ورد في كتب أهل السنة بمختلف تخصصاتهم، وورد في حديث مرفوع، قال: إن الذين يكتفون بذلك هم مَن “يعوزهم النظر فيما وراء المألوف”، ولا يقوون على الغوص في المعقولات..

طيب: وهل الإمام الأشعري يُعوزه النظر فيما وراء المألوف عندما يقول في كتاب مقالات الإسلاميين: “وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال -عز وجل-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، وكما قال المسلمون: ‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان وما لا يشاء لا يكون”.

وقال في الإبانة: وزعموا (أي المعتزلة) أن الله تعالى يشاء ما لا يكون، ويكون مالا يشاء، خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن ‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان، وما لم يشأ لم يكن..”.

وهل الإمام الماتريدي يعوزه النظر فيما وراء المألوف عندما قال في كتاب التوحيد: “.. ثمَّ قَول الْمُسلمين المتوارث بَينهم: ‌مَا ‌شَاءَ ‌الله ‌كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لَا يكون..”. وأعاد هذا الإجماع مرات في تفسيره، من ذلك قوله: “… وقول المسلمين أجمع حيث قالوا: ‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان وما لم يشأ لم يكن”.

وقال ابن العربي في أحكام القرآن: “قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا} {إلا أن يشاء الله}، قال علماؤنا: هذا تأديب من الله لرسوله، أمَره فيه أن يعلق كل شيء بمشيئة الله، إذ من دين الأمة ومن نفِيس اعتقادهم (‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان، ‌وما لم يشأ لم يكن) لا جرم فلقد تأدب نبينا بأدب الله حين علق المشيئة بالكائن لا محالة، فقال يوما وقد خرج إلى المقبرة: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»

نعم الاعتدال والعدل أن يقال: التعبيران جائزان، كما قال الماتريدي: “كقول الناس: ‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان، وما لم يشأ لم يكن، أي: شاء ألا يكون، لا يكون”.

وإن أَبينا إلا الترجيح رجَّحنا ما أجمع عليه المسلمون، وما في الحديث المرفوع بأكثر من طريق..

فهذا اللفظ الذي حكم هذا الشيخ بأنه فاسد وَرَد –يا شباب- في حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عدة طرق، وعن أكثر من صحابي. وجاء في حديث موقوف على جرير بن عبد الله بلفظ: “ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون”. وهو مروي عن سيدنا علي بن أبي طالب وسيدنا الحسن البصري. وقال البيهقي في الأسماء والصفات: “باب ‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان ‌وما ‌لم يشأ لم يكن، قال الله عز وجل: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله}، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله}، وقال تبارك وتعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله}.. ثم روى البيهقي الحديث المرفوع، من أكثر من طريق. وفي كتاب الاعتقاد البيهقي أيضا ما نصه: “وقد روينا في حديث زيد بن ثابت وفي حديث أبي الدرداء وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ‌شاء ‌الله ‌كان ‌وما ‌لم يشأ لم يكن”.

والإجماع قاطع للنزاع عند العلماء بمختلف تخصصاتهم.

قال الجويني في لمع الأدلة: “وقد أجمع سلف الأمة وخلفها على كلمة لا يجحدها مُعتزٍ إلى الإسلام وهي قولهم (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)، والآيات الشاهدة لأهل الحق لا تحصى كثرة..”.

وقال مكي بن أبي طالب: “وقد أجمع المسلمون على قولهم: ‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان وما لم يشأ لم يكن”.

وقال أبو العباس القرطبي في المفهم: “وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل: ‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان، وما لم يشأ لم يكن”.

بل كان العلماء يردون على المعتزلة بهذا الإجماع. ودونكم التعليق على كشاف الزمخشري لابن المنير الإسكندري. ففيه مثلا: قوله (أي الزمخشري): «وأراد منهم الخير والتقوى» مبنى على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد إلا الخير وإن وقع خلافه. ومذهب أهل السنة أنه يريد الخير والشر، وكل ما أراده يقع، لإجماع السلف على أنه ‌ما ‌شاء ‌اللَّه ‌كان وما لم يشأ لم يكن”. وفيه: “قوله «فسبحان من يحلم عمن يصفه بارادة القبائح» يريد أهل السنة القائلين: ‌ما ‌شاء ‌اللَّه ‌كان وما لم يشأ لم يكن، كما أجمع عليه السلف”. وفيه: “قوله «فعل القبيح مستحيل عليه» يريد أن الله لا يريد فعل القبيح وهي عقيدة المعتزلة. أما عند أهل السنة فالله يريد القبيح والحسن «‌ما ‌شاء ‌الله ‌كان وما لم يشأ لم يكن».

والرازي في تفسيره نصح الرَّاكب عند السفر بأن يقرأ هذا اللفظ ضمن أدعيته.

فهذا اللفظ لا غبار عليه لغة وشرعا وعقلا. ولو استرسلتُ في نقل علماء السنة لهذا اللفظ وحكاية الإجماع عليه لصار ذلك كتابا.

أقول: هذا هو العلم الذي ورثناه يا شباب. فاقبَلوا أو دَعُوا. إن أنتم -وأنا معكم- إلا مقلدة، فإما أن نقلد الأمة، وإما أن نقلد أشخاصا معاصرين.

والغريب أن الشيخ الفاضل يتحدث عن ظنية الإجماع وظنية الحديث الصحيح، وكأنَّ ما رآه هو قطعي. أمر غريب وعجيب.