طارق حنيش
أشرْنا، غير مرة، إلى أن أسوأ من قرأ كانط في سياقنا الثقافي هو ما يسمى بالمثقف العربي، لا من جهة جهله بمبانيه الفلسفية فحسب، بل من جهة تحويله فلسفة النقد إلى مجرد “نقولٍ” معزولةٍ عن نسقها التكويني؛ ولا يقتصر هذا العجز على كانط، بل يضاف إليه هيغل، بل إن جهالة هذا الصنف من “القراء” بأبرز تصورات هيغل هي أتم وأشد، حتى ليخطئ أحدهم في ضبط المفاهيم الأولية التي بها قوام نسقه، ويقع في وهم التحصيل لمجرد اطلاعٍ عابرٍ أو ترجمةٍ ساذجةٍ أو لمسٍ سطحي لمقولات الماركسية التي ادعت الانتساب إلى هيغل وهي عنه أبعد من بعد الصورة عن الأصل.
ونحن، بعون الله وتوفيقه، سننشر مقالةً مطولةً، نبين فيها جملةً من المفاهيم الهيغلية التي يجهلها المثقف العربي المعاصر، ونفصح فيها عن بنية المفهوم كما أراده هيغل، لا كما نقله عنه من لم يفهمْه. وسنبين – خاصةً – صلة مفهوم الجوهر Wesen، كما يتكشف تدريجيا بحسب تطور النفس في حركتها الجوهرية، على ما يشير إليه الشيرازي، بمفهوم القيومية القرآنية، وهي عندنا ليست إلا ما به قوام الوجود، الذي هو الله تبارك وتعالى. ولكنا، وإنْ قلنا إن الموجودات قائمةٌ بالله تعالى قيام الفقر والاحتياج، لا نقول إنها تجلياتٌ له على ما يذهب إليه بعض أهل الوحدة، بل نثبت أن الرباط الذي يجمع الكثرة بالواحد، هو ذلك الجوهر، الذي إذا ما تحققتْ مقولته وتجاوزتْ حدود ذاتها في مقام الرفع Aufhebung، انكشف للنفْس الوجود في جوهريته، أي في قيوميته، فتتجلى حينئذٍ حقيقة أن كل ما سواه مستندٌ إليه وجودًا واستمرارًا.
وإن تعين الجوهر إنما هو تعين الوجود لا بوصفه realitas، أي ما يشتق من res، أي “الشيء”، كما هو الحال في التصور اللاتيني السكوني، بل بوصفه Wirklichkeit، أي ما يتحقق في الفعل، حيث يتضمن هذا اللفظ جذر Wirkung، أي “الوقع” أو “الأثر”، فوجود الشيء ليس بمجرد ثبوته، بل بوقوعه وتحققه الفعلي، وهو ما يعبر عن استحضار الوجود في مجال الحدوث الحي، لا بوصفه ذاتًا مكتفيةً، بل أثرًا دالا على قيومية المطلق. وإذْ تترقى النفس في حركتها الجدلية، على وفق قانون الكشف والانكشاف، تتسامى تبعًا لذلك المقولات التي بها ينظم الوجود في إدراكها، فتغدو تلك المقولات، لا مجرد أدواتٍ بيانيةٍ، بل قوالب تكثيفيةٍ لمعنى الوجود، تسهم في بلورة التجربة الكينونية، وتتخطى مع توالي الترقي حدود أصلها اللساني.
بل إن النفس، بما آتاها الله من نور الفهم، تعبر مقولة السببية – التي هي عند أهل النظر القائم على الترسيم المنطقي أساس انتظام العالم – فتدرك، كما أدرك الغزالي، أن العلية ليست قانونًا كليا حاكمًا على الموجود، بل عادةٌ خلقها الله في النفوس لتستبين بها نظام الظاهر، وأما في نفس الأمر، فإن الوجود لا يخضع لعلاقة المعلل بالمعلول، بل هو في الحقيقة واقعٌ واحدٌ متصلٌ، جوهره القيومية، التي بها تقوم الأشياء على تفاوت رتبها. ومن ثم، فإن ترقي النفس في مدارج الكشف، يوازيه ترق في مقولة الجوهر نفسها، حتى تبلغ مرتبةً تتجاوز فيها سائر المقولات التي نشأتْ في الأصل من محاولات تنظيم الواقع عبر أدوات اللغة، إذ إن تلك المقولات – وإن أفادتْ في مقام التعليم والبيان – فإنها لا تقوى على الإحاطة بسر الوجود في ذاته، ما لم يكشفْ عنها بالحضور الذوقي والفهم الوجداني.
فالمقولات – كالجوهر والعرض، والفاعل والمنفعل، والسبب والمسبب – كلها قد أنشئتْ لتيسير إدراك العقل للوجود في مقام التمييز والتحليل، غير أنها لا تفي بحق الوجود من حيث هو تجل قيومي، بل هي صورٌ تقديريةٌ تمكث في الأذهان، وتذْهل عنها النفس إذا ولجتْ إلى حضرة الكشف. فبقدر ما تترقى النفس، بقدر ما تمحى هذه القوالب المفهومية من ساحة حضورها، وتنكشف لها الحقيقة لا بوصفها مجموع مفاهيم، بل بوصفها صيرورةً حقيةً، تتقوم بالله، وتكشف عن توحيدٍ أنطولوجي لا يقبل الانقسام ولا التعدد في مقام الذات.
ثم إن فهْم هيغل لـ”العقل” ليس محض تنظيرٍ في ماهيته ولا تخريجًا لصوره، بل هو مذهبٌ متفردٌ يحلق بالمنطق من رتبة كونه آلةً صوريةً دافعةً للزلل، إلى كونه تجليًا لـder Begriff، ذاك المفهوم الكلي الذي يتوسط بين العيني والمجرد، ويفيض على الوجود كله نسقًا من الضرورة المنظومة، لا بمعنى التحكم القسري، بل من حيث هو نظامٌ متعالٍ يتخلل الكائنات كما تتخلل الروح الأجساد. فإن هذا المفهوم ـ أعني der Begriff ـ ليس عنده مجرد مقولةٍ عقليةٍ ينظر بها، بل هو القوة الباطنة، والحركة الجوانية التي تعيد تشكيل العالم في كل تجل من تجلياته، فالعقل الهيغلي إذن ليس “فاعلاً” بالمعنى الأرسطي فقط، بل هو منشئٌ، بل ممثلٌ للفعل الذي يفيض الماهيات ويعيد إدماجها في نسق الحقيقة المطلقة.
ثم إن هيغل لم يجعل الدياكتيكا dialectica خاتمةً للمسير، ولا نهايةً للمساق، كما يظن ظنا أوليا في بعض الشروح الساذجة لمسير الروح، بل أنزلها منزلة اللحظة الثانية من ثلاثٍ، تتوسط ما قبلها وتمهد لما بعدها، إذ تنحل عنده في لحظةٍ ثالثةٍ تسمى سْبكولاتسيو speculatio، أعني: التأمل الذي هو اندراجٌ تام للفكر في ذاته، لا على جهة الانغلاق الحابس، بل على جهة الانعطاف الذاتي الراجع إلى الحقيقة المطلقة، التي هي عنده الفكرة المطلقة، لا بما هي مفهومٌ بدئي، بل بما هي تحققٌ لوغوسي للفكر المتعين في ذاته، ولذاته، ومن ذاته.
وكما لا يخفى على المتنبه الفطن، فإنا لم نعبأْ في مقالتنا هذه بالمفاهيم المبتذلة المكرورة، من نحو ما يقال في المحافل الثقافية: “هيغل أبو الحداثة”، أو “مؤسس مفهوم الدولة الحديثة”، أو “منظر التاريخ الغائي”، ونحو ذلك من الألفاظ التي غلب عليها الاستهلاك التبسيطي، وصارت تردد كأنها شعاراتٌ حزبيةٌ أو قوالب صحفيةٌ جاهزةٌ، لا ينظر فيها إلى باطنها الفلسفي، ولا إلى ما تنطوي عليه من اختلاف المدارك والأنساق.
ذلك أنا لم نقصد إلى العرض السياسي أو الإيديولوجي في مشروع هيغل، ولا إلى استخراج ثمارٍ مستعجلةٍ تناسب الذوق التداولي أو الأطروحات الجامعية التي غدت سجينة التكرار، بل رمنا النفوذ إلى باطن نسقه، حيث تتكون الحقيقة كفعلٍ منطقي، وتنكشف ككينونةٍ تتعين بذاتها، متجاوزةً الحدود المرسومة للمفاهيم المدرسية الجاهزة.
فغاية بحثنا لا أن نثبت أن هيغل كان حداثيا أو ما بعد حداثي، بل أن نجلي مكنون المقولات الكبرى في نسقه – كالجوهر Wesen، والفعلية Wirklichkeit، والرفع Aufhebung – من حيث هي أدواتٌ لتحقيق كينونة النفس في مراقي الحضور القيومي، لا من حيث هي مصطلحاتٌ توظف في سياقات السياسة أو التأريخ.