24 مارس 2025 / 09:49

لماذا ندرس ابن تيمية؟

محمد بن عياد
أضحى هذا السؤال يجد أفقا بحثيا منفتحا في جامعات ومراكز البحث الغربية، وذلك عندما التفتت بإمعان لسؤال الجدوى والمعنى من إمكانات تتبع غزارة التأليف اﻹبداعي الذي أنجزه الفكر العربي اﻹسلامي، وذهنيته الاشتغالية في توسيعات صنافات معارفه في حقبة العصور الوسطى Moyen âge والتي كثيرا ما أحرجت الغرب المسيحي وحثته على بدل الوسع والانكباب العلمي عليه: دراسة وفحصا وترجمة وسعيا إلى توطينه في بيئاته الجغرافية.

العلامة ابن تيمية واحد من هذه اﻷبنية الفكرية الإسلامية التي ما زالت عصية الاقتراب في بيئاتنا الفكرية العربية اﻹسلامية: بين إفراط اغتال ابن تيمية من سياقه الزمني وأنهكه بتوسيمات سلفية أصولية، أوغلت في احتباسه من شدة تضييقات الفهم، التي زيفت وعيا جمعيا، ما زالت آثاره مبقية على شغب في الاستعمال والفهم الشائه، وبين نزوع حداثي معطوب أرهق ابن تيمية في سجالات أعوزها الفهم؛ فأساءت الاقتراب، وألغمت الرجل في رجّاتٍ ونزالات تحريضية، ما كان لها أن تتورط في هذا النزال المجاني لو التزمت اصطفافات الحيادية والتبرم عن شائهِ اﻷحكام المسبقة وألغام المفاهيم السيارة.

ذلك أن ابن تيمية الفقيه في منجزه الفكري المنفتح على العلوم والمعارف وألوان تياراته الفلسفية لا ينبغي أن يُقرأ منتزعا من سياقاته Contextes التي أنجز فيها، وللحوادث الجسام التي واكبت حياة الرجل في دمشق ومصر، حياة لم تكن سهلة باﻹرتكان والدعة؛ بل كانت حياة مجابهة ومجاهدة ﻷعداء غزاة، ولخصوم وُشاةٍ زجوا به في غيابات السجون.

لم يعرف الرجل فيها طعم الزواج، ولا التفت إليه، إلا من جهة حمل هذا الهمّ الجمعي ورفعه إلى سقف اشتغاليٍّ دؤوب، وبتآليف تعددت صنافاتها، وبآثار مبقية حفظت للمرايا التّيمية تَلمذةً التميز الفسيح، التي استلم مشعلها على تثويرات اشتغالية متعددة: كابن القيم الجوزية، وابن كثير، واﻹمام الذهبي.. وغيرهم، ما يجعل من المنجز التّيمي مداراتٍ اشتغالية تنبعث بتعددات ومختلفات اشتغالية، وباكتشافات ما زالت تتعقب فكر وفِقه رجلٍ انتمى لمدرسة حنبلية، واختط لنفسه مدارا تخاطبيا استثنائيا.

كان لي في هذا الصدد شرف التعرف عليه في منتصف تسعينيات القرن الماضي من خلال كتابيه: ”اقتضاء الصراط المستقيم” و ”مقدمة في التفسير”؛ لكن ملمح الاكتشاف الكبير لابن تيمية كان متاحا لي في بدايات اﻷلفية الثالثة من خلال تخصص بحثي في الدراسات العليا المعمقة: [الدراسات الدينية المقارنة والمناظرات الدينية في الفكر اﻹسلامي] وذلك من خلال قراءتي لكتابه المميز: ”الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” أبان عن زينةِ ابن تيمية في سعات تضايفه مع معالم الاختلاف الديني وفي جودة مناقشته دون توجُّس ولا انتقاص ازدرائي؛ بل بتوليفة تعرُّفٍ اطلاعي مُتقنٍ للمسيحية اﻷورثوذكسية، وبتعرُّفٍ اقترابي استزادي، جاور فيه المسيحيين، وبَلور فيه تصورا عن فِعل العقائد المسيحية في منتسبيها، وكذا منظوم عوائدهم الدينية ووشائج تعلُّقهم بها، حيث عرف ابن تيمية كيف يجيد جودة التنقل في تدبير المؤتلف والمختلف الدينيين.

في راهن معاصر أضحى يشكو ازدراءا باﻷديان ورموزها الدينية بدعوى حرية التعبير liberté d’expression وذلك نتيجة مخيال اشتغالٍ متوتر ما زال يشكو إفقارا Appauvrissement منهجيا في تمثل الاختلاف واستيعابه واﻹقرار بشرعية وجوده!!؟

لعل هذه الفسحة تكون فرصة لإمكانات تساؤلية تسعى إلى تحييد غشاوات الشغب وسوء استعمالاتها الكارثية.. إلى انتقالات اشتغالية مغايرة، حرِيٌّ بالتقاطها واستعادتها على اصطفافاتٍ علمية رصينة، جديرة باﻹقناع في مدارات تخاطبية جديدة، بات عالمنا الراهن في أمس الحاجة إليها، واﻹسهام بترييض الناشئة الصغيرة ذهنياً على فهمها واﻹتمام عليها.
ــــــــــــــ
صفحة الكاتب على فيسبوك