لماذا تُعامل التكنولوجيا التي أنتجتها العقول البشرية كقدر أعلى من الدولة والمجتمع؟

5 ديسمبر 2025
محمد عادل زكي
ربما تكون من أكبر أكاذيب النظريَّة الرسميَّة تلك الَّتي يتم حشو عقول الطلبة بها، الذين يتم إعدامها يوميًا في الجامعات، أن التكنولوجيا كائن مستقل، يهبط علينا من السماء، يقرّر وحده مَن يبقى من قوة العمل ومَن يتم تسريحه.
والواقع أنه ليس في هذا التدفّق الهائل من التقارير، المكتوبة كأنها قوانين طبيعيَّة، سوى إعادة إنتاج للوهم نفسه. فالذكاء الاصطناعيّ لا يملك قوة تاريخيَّة مستقلة. والصراع الاجتماعي من أجل السيطرة على الجديد فيه هو الذي يطور المجتمعات، وليس تطور المجتمعات، كما يعدمون الطلبة في الجامعات، هو الذي يقود إلى تطوره.
إنه كيان صُنع عبر ملايين السَّاعات من العمل البشري، من العقول الَّتي ابتكرت والنظريات الَّتي اختُبرت، إلى المناجم التي حُفِرت والخامات الَّتي صُهرت والمصانع التي شُكّلت والاقتصَادات الَّتي تحرّكت لتدعم هذا كله. وكل “آلة” تستبدل مئة عامل في قطاع ما، تُولّد، في مكان آخر، جيشًا من العمَّال الذين جعلوا ظهورها ممكنًا.
لكن الخطاب السَّائد لا يريد لهذه المفارقة أن تظهر مطلقًا. فالحقيقة أن استبدال الآلة بالعمَّال ليس حقيقة… بل هو مشروع سياسيّ. فعندما يُقال إن قدرة الذكاء الاصطناعيّ قد تسمح باستبدال 11.7% من سوق العمل الأميركي، فهذا ليس تحليلًا للواقع، بل تبريرًا مسبقًا لما يُراد أن يصبح واقعًا، تمامًا كما حدث مع “الأتمتة” و”العولمة” و”اقتصَاد المعرفة”.
حين تستبدل شركة 14 ألف موظف بآلات أو بأنظمة رقميَّة “كخطوة استراتيجيَّة”، فإن السُّؤال الحقيقيّ هو: من سيحصل على الفائض الَّذي ستخلقه زيادة الإنتاجيَّة؟ العامل المطرود؟ أم العامل المتبقي؟ أم المجتمع؟ أم الفئة المالكة لوسائل الإنتاج؟ الجواب ربما يكون بديهيًا؛ ولذلك يتجنبونه.
الحقيقة أننا أمام تنبؤات (مقصودة) تخلق الواقع، وليس الواقع الَّذي يُنتجها. إنهم لا يصفون المستقبل. إنهم يصنعونه وفق شروط الرَّأسمال. فالتكنولوجيا ليست الفاعل؛ إذ الفاعل هو الرَّأسمال. فاللغة السَّائدة تتحدث كما لو أن التكنولوجيا “تدفع” الشركات إلى تسريح العمَّال، لكن الحقيقة بسيطة، وهي أن القوة الدَّافعة تكمن في الرغبة المحمومة في خفض كلفة العمل وتعظيم القِيمة المنتزعة من العمَّال المتبقين.
إن الآلة ليست سببًا، إنها ذريعة، تمامًا كما كان “تحسين الكفاءة” و”إعادة الهيكلة” مجرد أسماء مهذبة لعملية ضغط العمل البشري حتى آخر رمق. فالضحية الحقيقية، كما شرح سميث، هم الضعفاء، وليست الوظائف.
يُقال إن الموظفين الجدد هم أول من يُستغنى عنهم. لكن هذه ليست “حقيقة تقنية”، بل حقيقة سياسية؛ مَن لا يملك قدرة تفاوضيَّة يُضحّى به أولًا. ومَن يقف عند عتبة سوق العمل بلا حماية، يُلقى به في الشارع. وليس هذا لأن الذكاء الاصطناعيّ “أذكى”، إنما لأن الرَّأسمال وجد مخرجًا أنيقًا لتقليص المخاطر. ولعل السُّؤال الْمهم هنا هو بصدد الدَّولة؛ فهي الْغائب الأكبر. والخطاب السَّائد يتصرف كما لو أن الدَّولة مجرد مراقب ينظر من بعيد.
لكن الحقائق الاقتِصَاديَّة تقول إنه لا توجد موجة تكنولوجية بدون دولة، ولا يتحول نمط الإنتاج بدون جهاز سياسيّ يُعيد صياغة العلاقة بين العمل والرَّأسمال. هنا، الدَّولة [قد] تغيب لأنها تنازلت عن دورها، وليس لأنها محايدة، كما يتم تلقين الطلبة. لقد تخلّت الدولة عن التَّخطيط، وعن إعادة التَّوزيع، وعن حماية الشرائح الأضعف، واكتفت بدور “المنظم” الَّذي ينظم حركة المرور في قوافل التَّسريح.
باختصار، يتبدَّى حديث “استبدال الذكاء الاصطناعي للوظائف” كإنتاج أيديولوجيّ لمستقبل مطلوب. السُّؤال إذًا لا يجب أن يكون كم وظيفة سيقضي عليها الذكاء الاصطناعيّ، إنما هو: لماذا تحوّل الإنسان إلى كلفة زائدة؟ ولماذا تُعامل التكنولوجيا، الَّتي أنتجتها الأيدي والعقول البشريَّة، كقدر أعلى من الدَّولة والمجتمع؟ ومَن الذي يملك الحق في تقرير أن آلة، صُنعت بعمل البشر، يجب أن تُقصي البشر؟
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك 

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...