لفهم المرجعية السياسية لترامب وإيلون ماسك مهم قراءة كتاب الأستاذة لمياء ولعلو

الأصولية الإنجيلية.. الهوية والهاوية

دينبريس
2025-02-19T08:41:23+01:00
كتاب الأسبوع
دينبريس19 فبراير 2025آخر تحديث : الأربعاء 19 فبراير 2025 - 8:41 صباحًا
لفهم المرجعية السياسية لترامب وإيلون ماسك مهم قراءة كتاب الأستاذة لمياء ولعلو

لحسن العسبي
كثير من القراءات التي تتناول اليوم ظاهرة الرئيس الأمريكي المنتخب ديمقراطيا دونالد ترامب، لا تستحضر الدور المحوري في نجاحه السياسي وفي توجهه الفكري (إن جاز لنا التعبير) الذي يلعبه التيار الإنجيلي في ذلك. وهو تيار جد محافظ يميل لأن يكون متطرفا وأصوليا من الناحية الدينية، منتصرا لفكرة إسرائيل الكبرى.

بل إن التيار الإنجيلي في مرجعيته الأمريكية منذ سنة 1927 (تيار “العنصرة” الخمسيني بالتحديد) يعتبر أقوى تيار مسيحي أصولي انتشر بقوة في كامل الأمريكيتين، نجح في تقليص نفوذ المذهب الكاثوليكي الكنسي المسيحي مما يقلق كثيرا بابوية روما، مثلما تجاوز كل الحركات الإصلاحية البروتستانتية (المشيخيون، اللوثريون، الأنغليكان، المعموديون، المناهجيون، السبتيون). والرئيس ترامب ورفيقه اليوم رجل المال والأعمال إيلون ماسك إنجيليان أصوليان، تماما مثل الرئيس البرازيلي السابق المتطرف والعسكري بولسونارو.

لفهم خلفيات وأسس هذا التيار الديني السياسي المسيحي مهم العودة إلى الكتاب القيم الذي قمت بترجمته سنة 2020 للأستاذة والباحثة المغربية المقيمة اليوم بالمكسيك لمياء ولعلو (نجلة الدكتور فتح الله ولعلو)، الصادر ببيروت عن دار النشر “المركز الثقافي للكتاب”، الذي اخترت لترجمته عنوان: “الأصولية الإنجيلية.. الهوية والهاوية”.

فهو كتاب علمي توثيقي وتحليلي رفيع مسنود بعمل ميداني للباحثة المغربية لمياء ولعلو بالبرازيل التي قضت بها 12 سنة كمستشارة بالقناة التلفزية البرازيلية الأولى، وبتلك الصفة العلمية نشرت دراسات عدة على مدى سنوات بجريدة “لوموند ديبلوماتيك” كواحدة من أكبر الإختصاصيين في العالم في شؤون أمريكا اللاتينية.

هنا المقدمة التي وضعتها للكتاب:
” لابد أن أعترف، أنه حين جاءني خبر صدور كتاب جديد للأستاذة لمياء ولعلو، من مصدر مشترك بيننا، هي التي تقيم الآن بالعاصمة المكسيكية (مكسيكو)، موضوعه خاص بمقاربة تجربة “التيار الإنجيلي” ودوره السياسي المتعاظم بالبرازيل، كونها عاشت هناك أكثر من 10 سنوات، تساءلت (سؤالا استنكاريا) حول مدى استحقاق الأمر إنجاز كتاب مستقل حوله. وأن يكون ذلك أصلا، صادرا، من جغرافية ثقافية مغربية، مغاربية ومتوسطية، مثل التي تنتمي إليها الأستاذة لمياء. لأنه في مكان ما، فنحن نعتبر في فضاءنا العربي والإسلامي، أن أمريكا اللاتينية، وخاصة البرازيل، بعيدة عن جغرافية اهتماماتنا، وأنها تكاد تحتل، مساحة “اللامبالاة” ضمن أولويات ما نعتبره شغفا منا بالعالم. لأننا، بتأثير ربما من صيرورة تاريخية تفاعلية منذ 150 سنة، قد بقينا نعتبر أن الجغرافيات التي تستوجب منها الإهتمام، هي جغرافيات الشمال (الغربية.. الأروبية والأمريكية والروسية).

لكن، حين توصلت بنسخة من كتاب “jésus t’aime – la déferlante évangelique”، وغصت في تفاصيله، وجدتني في مكان ما أشبه بمن يكتشف، بغبطة، قارة بكر، مجهولة تماما ضمن ما نعتقد أننا نعرفه عن أنفسنا وعن العالم. وقدم لي درسا، هاما، حول مدى ما نحتاجه من جهد حقيقي، كي نتمثل التجارب البشرية عالميا، من موقع الإختلاف وأساسا من موقع التعدد. وأننا في عالمنا العربي، نحتاج فعليا، إعادة نظر شمولية في مرجعياتنا التحليلية، تلك التي بقينا نجترها منذ أسئلة النهضة العربية في نهاية القرن 19، من موقع صدورنا عن خلفية ترى إلى العلاقة مع العالم، علاقة “صدامية”.

وهي الخلفية التي تجد تفسيرها الطبيعي، أكيد، في ما خلفته فينا جميعا في جغرافياتنا المتعددة، ما أسميه دوما “صدمة الإستعمار”، التي كانت محفزا مستفزا، لاستنهاض أسئلة الهوية، في كامل أبعادها اللغوية والدينية والحضارية، في وعينا العربي والإسلامي (سواء في النخبة أو في المجتمع). وأن هذا هو الذي جعلنا، نبقى أسرى، تحليل لا يرى من قيمة للمعرفة والفهم، سوى من خلال تمثل شكل العلاقة مع الآخر (الغرب)، إما من موقع التبعية، أو من موقع الإنبهار والتقليد، أو من موقع المواجهة والقطيعة.

والحال، أن التجارب البشرية، عبر قارات العالم، على امتداد القرن العشرين، أقله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وتأسيس هيئة الأمم، قد أنضجت تجارب إنسانية وحضارية، مختلفة، سمحت بإعادة تمثل لدور تلك المجتمعات ضمن منظومة العلاقات الدولية، من خلال انخراطها ضمن دورة الإنتاج العالمية من موقع المساهمة (لا الإستهلاك والتبعية). وهي التجارب التي أنضجت اليوم واقعا كونيا مختلفا، غير مسبوق، برزت فيه أقطاب جديدة، مثل الصين والهند والبرازيل، أنهت مع واقع القطبية الغربية، ومنطق المركزية الأروبية، الذي ساد العالم، بقيمه، منذ القرن 18.

هنا، تكمن الأهمية البالغة، لكتاب الأستاذة لمياء ولعلو، الذي لا يقدم لنا فقط مادة غنية، مكثفة، علمية ورصينة عن واقع البرازيل اليوم. بل، إنه يقدم لنا مفاتيح حاسمة لفهم معنى من معاني التحولات في العالم، يلعب فيها الدين دورا مؤثرا وحاسما. ونفهم من خلال بحثها الدقيق، المعتمد على أصول البحث الاجتماعي، وأساسيات المباحث السوسيو – سياسية، كيف أن المنزع الأصولي (المتطرف)، ليس قدرا مخصوصا بعالمنا العربي والإسلامي. إذ، من خلال فصول كتابها القيم هذا، نتتبع خريطة ما يعتمل من تحولات خطيرة، جد مقلقة، ضمن الجسم المسيحي، وكيف أن الكاثوليكية كمذهب، والبروتستانتية كمذهب منافس ومختلف، أصبحا متجاوزين تماما أمام تصاعد “التيار الإنجيلي” الأصولي المتشدد. وأن المثال الحي على ذلك، هو واقع ما يحدث بالبرازيل، وبالإستتباع في كامل أمريكا اللاتينية.

إن التوقف عند التجربة البرازيلية في هذا الباب، تكمن أهميته، ليس فقط في أنها مشتل مثالي لتلك التحولات القيمية والهوياتية، ضمن الفضاء المسيحي. بل، لأنها تعتبر أهم تجمع بشري مسيحي كاثوليكي في العالم، ظلت تعتبره البابوية، من ضمن جغرافياتها الحاسمة لتعزيز مكانة الكاثوليكية عبر العالم. وأنها (وهنا المفارقة)، المجال الجغرافي الإستراتيجي، الذي أطلقت فيه البابوية على عهد البابا جون بول الثاني، البولوني الأصل، بدعم من رئيس مجمع الكرادلة ورئيس “مجمع العقيدة والإيمان” بروما، الألماني الأصل، جوزيف ترازنغر (الذي أصبح في ما بعد البابا بينيديكت 16)، أطلقت فيه البابوية رصاصة الرحمة على ما وصف ب “التيار التقدمي” ضمن الكنيسة الكاثوليكية، الذي كان له دور حاسم في جعل الكنيسة بأمريكا اللاتينية تصالح الأتباع مع الكاثوليكية (هي التي كانت تجتر وراءها إرث التجربة المريرة للإحتلال البرتغالي لقرون، بكل المآسي المصاحبة لذلك الاحتلال).

وذلك بفضل الدور الذي لعبه قساوستها في مواجهة الديكتاتوريات العسكرية بأمريكا اللاتينية والدفاع عن الحريات وحقوق كل ضحايا الإستبداد السياسي أو القهر الاجتماعي. فكانت النتيجة، هي فتح الباب واسعا، للأصولية المسيحية، الإنجيلية، المنتمية لتيار “العنصرة الخمسيني”، المتشدد. مما خلق اليوم واقعا، جديدا، تماما بالبرازيل وبأمريكا اللاتينية، يشكل انعطافة هوياتية غير مسبوقة تاريخيا بذات القوة والحجم، لها آثارها الحاسمة على المشهد السياسي والتربوي والقيمي بكل المجال المسيحي.

تكمن، أيضا، أهمية كتاب الأستاذة ولعلو، في أنه يقدم لنا خطاطة تكاد تكون نسخة طبق الأصل، لواقع تمدد الأصولية الدينية في جغرافياتنا العربية والإسلامية، سواء من حيث أشكال الإشتغال والإستقطاب أوالمبادرة. وأن تفاصيل التجربة البرازيلية، حين نكتشفها مع توالي قراءة فصول الكتاب، تقدم لنا جوابا تفسيريا ومعرفيا، يساعد عاليا في إعادة فهم وتمثل واقع بروز وتمدد وانتشار التيار الأصولي ببلداننا. لهذا السبب، اخترت أن أترجمه إلى اللغة العربية، وأن أغير عنوان الكتاب، من “المسيح يحبك” إلى “الأصولية الإنجيلية بالبرازيل”، مع عنوان فرعي تفسيري يقدم عناوين عن الآليات الحاسمة التي تشتغل عليها تلك الأصولية الدينية المسيحية هناك، وهي : “استغلال أسباب الفقر واللاأمن والجريمة والمخدرات والتفكك الأسري”/ “الإستثمار الهائل في الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، خاصة مجال الصوت والصورة”/ “التحكم في دواليب الإنتاج الصناعي”/ “التحكم في الآلية القانونية الدستورية التي يمثلها البرلمان والمجالس المحلية والولايات”.
ــــــــــــــــــ
صفحة الكاتب على فيسبوك

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.