عبد النبي عيدودي
تضطلع اللغة بأدوار متعددة، ويمكن تناولها من زوايا مختلفة، وبغية البحث في هذا الموضوع يمكننا الانطلاق من مجموعة عناصر، نعرضها وفق منهج متدرج ينطلق من البسيط إلى المركب، ومن الذات إلى المجتمع، ومن الداخل إلى الخارج.
أولها: أن اللغة توجد من أجل التعبير، والتعبير مسألة نفسية عميقة. فاللغة ليست فقط ما نقوله، بل ما نعيشه شعورا ونتنفسه وجدانا. إنها الأداة التي نواجه بها انفعالاتنا ومخاوفنا وصراعاتنا الداخلية، ومن دونها تصبح الذات معزولة، حبيسة العجز عن نقل ما يعتمل فيها. لهذا لا نستغرب أن جميع كتب علم النفس تحتوي على فصلٍ خاص باللغة، لأنها مرتبطة ارتباط عضوي بالبنية النفسية للإنسان. فهل يمكن للإنسان أن يواجه العالم دون لغة؟ وهل يستطيع أن يتحرر من كوابيسه دون أن يعبر عنها؟ لقد وُجدت اللغة كي لا يُختنق الوجدان، وكي يتحول الألم إلى قول، والحيرة إلى سؤال.
ثانيها: أن للغة دورا اجتماعي مؤسس. فالمجتمع لا يقوم فقط على القوانين أو المصالح، بل على لغة يتفاهم بها الناس، وينتج بها المشترك الرمزي بينهم. اللغة هي وسيلة إنتاج الجماعة لنفسها كـ”مجتمع”، وهي التي تنسج الذاكرة الجماعية، وتنقل القيم، وتؤطر الاختلاف. فلا يمكن تصور أي مشروع جماعي، أو عقد اجتماعي، أو حتى فكرة “وطن”، بدون لغة جامعة. ولهذا، حين تضعف اللغة، يتشقق النسيج الاجتماعي نفسه، ويتحول التعدد إلى صراع لا إلى تكامل.
ثالثها: أن اللغة تؤدي دور تواصلي وإعلامي. فهي التي تتيح نقل المعاني والأخبار والمواقف. وهي التي تجعل من الخطاب وسيلة للتأثير والتعبئة والاقتناع. ومن هذا الدور ينبثق تأثيرها في التعليم، والسياسة، والإعلام، والدعاية، بل وحتى في تشكيل الرأي العام. فاللغة هي أداة الهيمنة الناعمة، وحين تفقد لغةٌ ما حضورها في الإعلام، تفقد تدريجيًا تأثيرها في عقول الناس.
رابعها: أن اللغة، قبل كل شيء، هي الحامل الأول للإبداع الفكري والثقافي. فلا إبداع بلا لغة، ولا فكر بلا بيان، ولا حضارة بلا تعبير. وكل من يدعو إلى إضعاف اللغة العربية، أو التقليل من شأنها، يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في شلّ الإبداع. لأن التفكير لا يتم إلا بلغة، والعقل لا يتكون إلا ضمن نظام لغوي. ولهذا فاللغة ليست فقط وسيلة للتعبير عن الهوية، بل هي مؤسسة للهوية. من خلالها نعرف، وبها نميز، وعليها نقيس مدى وجودنا الرمزي بين الأمم.
ومن هنا نقول إن اللغة العربية ليست مجرد لغة، بل هي إحدى ركائز الهوية الجامعة للمغاربة والمشارقة والمجتمعات الإسلامية قاطبة. ولهذا نجد جميع العلوم قد تناولت اللغة، ومنها اللغة العربية، في فصول خاصة من مناهجها. فماذا يعني أن ندرس الفلسفة والعلوم الإنسانية باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، بينما نهمش اللغة التي نصلي بها ونحلم بها ونعبر بها عن ذاتنا العميقة؟
وبعد هذه المقدمة، يحق لي أن أتساءل:
لماذا لم أقل من أجل اللغة الفرنسية وبها؟ أترك ذلك للفرنسي. أما أنا، فجزء من ذاتي وهويتي يدفعني لأن أقول: من أجل اللغة العربية… وبها. لأنني حين أتكلم بها، أتكلم بما يكرمني و يشكلني، لا بما يغربني و يستهويني . وتناولي لهذا الموضوع سيكون تناول استراتيجي، ينظر إلى اللغة في شموليتها، في تاريخها العريق، وفي حاضرها المرتبك، وفي استشراف مستقبلها.
فما عساني أفعل بها؟ أي، ماذا نريد نحن بهذه اللغة؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي يهم المغرب وكل البلدان التي تتكلم بالعربية، ليس فقط من منطلق الانتماء العرقي، بل من منطلق الانتماء الحضاري. لأن العربية مع الإسلام لم تعد حكرًا على العرب، بل صارت لغة أوسع من الإثنية، وأشمل من الجغرافيا. ولهذا، فإن من يتهجم على اللغة العربية لا يتهجم على “العرب”، بل على المسلمين أجمعين، وعلى إحدى أهم أدوات تواصلهم الروحي والعملي.
أما ما تعانيه اللغة العربية اليوم، فهو ليس مجرد تراجع عفوي، بل نتيجة لغياب رؤية استراتيجية واضحة. إنها في حاجة إلى خطة مزدوجة: نعمل من أجلها حتى نستطيع العمل بها. لأن الاشتغال بالعربية يتطلب أولًا تقويتها، لا من خلال الخطابات العاطفية، بل من خلال سياسات عمومية واضحة المعالم، تربط بين المدرسة والجامعة، وبين الإعلام والمجتمع، وبين الداخل والخارج.
حين قلت من أجل اللغة العربية، قصدت أنه لا بد من التراجع خطوة إلى الوراء، من أجل بناء إستراتيجية نشبع بها الحاجة إلى لغة قوية، تعطينا قوةَ المتكلم بها، وهي التي كانت لغة الحضارة والعلم. ولا ننسى أن الحضارة التي سميناها “إسلامية” إنما كانت حضارة لغتها عربية، وإن لم يكن أهلها كلهم عرب. فالخوارزمي، وابن سينا، والبخاري، والفارابي، وغيرهم كثير، لم يكونوا عربا، ولكنهم كتبوا وأبدعوا وفكروا بالعربية.
فمن ينكر اللغة العربية أو يقلل من شأنها، فهو ينكر كل هذا التراث الإنساني، ويضرب الحضارة من جذورها. وأنا من المؤمنين بأن تلك كانت حضارة إسلامية بلغتها العربية، وإن اختلفت الأعراق والأنساب.
ماذا نفعل من أجلها؟ وماذا نفعل بها؟
للإجابة لا بد من أن نتساءل: ما هي وضعية اللغة العربية الآن بين اللغات العالمية؟ ما هو ترتيبها؟ الجواب معروف ومؤلم. مكانتها لم تعد كما كانت. والماضي المجيد لا يغني عن الحاضر المتعثر. ولهذا، لا بد من الاحتكام إلى معايير موضوعية، وهي كما يلي:
- كم الإنتاج المتوفر بكل لغة في العلوم والفكر والإبداع.
- قيمة هذا الإنتاج، وهل يساهم في تطوير المعرفة عالميًا.
- حجم الترجمة من اللغة العربية وإليها.
- كفاءتها المصطلحية، ومدى قدرتها على استيعاب المفاهيم العلمية الحديثة.
- توفر المعاجم والموسوعات التي تواكب تطور المفردات والاستخدامات.
- قدرتها على أداء الدور التكويني في الفكر والثقافة والتعليم.
وعند هذه النقطة، لا بد من جلد المؤسسات المعنية بهذه المهام. أين المجامع اللغوية؟ أين مراكز البحث؟ أين وزارات التعليم؟ ماذا تفعل الهيئات المعنية بهذه المعايير؟ ماذا تنتج؟ ومتى تواكب؟ وهل تتفاعل مع تطور اللغة أم أنها تدير ظهرها لها؟
– بل أكثر من ذلك، نتساءل بمرارة: ماذا تفعل سفاراتنا وقنصلياتنا في أنحاء العالم؟ أليست هذه مؤسسات يفترض أن تساهم في التعريف بلغتنا، وتفتح أبواب الترجمة منها وإليها، وتقيم معارض وندوات وورشات تبرز حضور العربية عالميا؟ أليس من حق العربية أن يكون لها لوبي ثقافي ودبلوماسي يدافع عنها كما تدافع فرنسا عن الفرنسية، وألمانيا عن الألمانية، والصين عن الصينية؟ إن التقصير في هذا المجال غير مقبول.
– ونضيف إلى ذلك تساؤلا داخلي مؤلم: لماذا صارت هناك مسافة بين المتكلم العربي والقاموس العربي؟ لماذا لا نجد المفردات المتداولة اليوم في معاجمنا؟ كيف نطلب من الناس أن يكتبوا بالعربية وهم لا يجدون فيها ما يُعبر عن حاجاتهم اليومية والعلمية؟
– أما الإنتاج العلمي والفكري باللغة العربية، فحالته لا تسر. كم هو عدد المقالات المحكمة، والبحوث الجامعية، والدراسات الفكرية التي تصدر بالعربية مقارنةً بالفرنسية أو الإنجليزية؟ أين اللغة العربية في علوم النفس والاجتماع والاقتصاد؟ وأين هي في الصناعات الرقمية والمعرفية؟ الجواب مخجل.
– والترجمة، التي تعد شريانًا لغويًا، ما تزال ضعيفة. لا نترجم منها كثيرًا، ولا نُترجم إليها بما يكفي. كيف نريد لها أن تكون لغة كونية، ونحن لا نفتح لها أبواب العالم؟ الترجمة هي الجسر الوحيد الذي يعبر به العقل العربي نحو العالمية. وغياب هذا الجسر يُغلق الطريق ويتركنا في عزلة لغوية خانقة.
– بل إن لهذا الغياب علاقة مباشرة بظهور التطرف، لأن العقول التي لا تنفتح على تجارب الآخر، ولا تطلع على تنوع الإنسانية، تميل إلى الانغلاق، وتحوّل الدين إلى جدار بدل أن يكون جسرًا. فهل نُدرك هذا الخطر؟
– إن للغة العربية دورا تكويني عميق في بناء العقل المنتج، ولا يمكن لهذا العقل أن يتكون جذري وحقيقي إلا باللغة الأصلية. لأنها الوحيدة التي تملك مفاتيح الوجدان العميق والتفكير الخلاق.
وأخيرا، ماذا سنفعل بها؟
أعتبر أن المجتمعات الغربية والشرقية والإفريقية في حاجة إليها. وإذا استطعنا أن نقوي اللغة العربية وفق المعايير العلمية الموضوعية، فإنها لن تكون فقط لساننا، بل سلاحنا في معركة الوجود الثقافي. فهي تُعزز خصوصياتنا، وتمنحنا قوة تفاوضية في عالم يستهلك الصغار ويهمش من لا يتكلم بلغته الأصلية.
أنا لست ضد أي لغة، بل أرحب بتعدد اللغات، لكنني أرفض أن تكون اللغات الأجنبية على حساب اللغة الوطنية. ويجب أن تكون الترجمة منها وإليها وسيلة لنقل المعرفة إلى العربية، لا لإحلالها مكانها. بهذا تصبح الجامعات والمعاهد فضاءات تخدم بها اللغة العربية، لا تقصى منها.
بهذا المعنى، يصبح تعليم اللغات الأجنبية فائدة، لا بديلًا. وتصبح اللغة العربية جسد الأمة وروحها في آن واحد.
من أجل اللغة العربية… وبها، نحيا، ونفكر، ونسائل، ونحلم.