في الزمن الذي ينتزع فيه الأطفال من أحضان أمهاتهم تحت أنقاض غزة، وفي اللحظة التي تحولت فيها فلسطين إلى اسم آخر للمذبحة، والسجن، والحصار، والخذلان، كان من المفترض أن تكون راية فلسطين “خيمة جامعة”، لا تستعمل في المزايدة، ولا تستغل في التموقع، ولا توظف في تصفية الحسابات الصغيرة بين الفرقاء.
غير أن ما وقع مؤخرا في مدينة طنجة يكشف عن انزلاق خطير في بوصلة الوعي التضامني المغربي، ويسلط الضوء على التداخل المقلق بين نبل القضية وابتذال بعض استعمالاتها..
لقد عبر البيان الصادر عن فرع الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، والذي استثنى أحد المكونات السياسية من المشاركة في مسيرة تضامنية مع غزة، بوضوح، عن حالة من التشظي العميق داخل الجسم “الإسلامي” المغربي، الذي لم يعد قادرا على إدارة خلافاته الداخلية دون استدعاء “ورقة فلسطين” كسلاح للإقصاء أو أداة للمزايدة.
وهنا تكمن المفارقة المريرة: أن يتحول الجرح الفلسطيني إلى حلبة صراع محلي على “الشرعية التضامنية”، بدل أن يظل منبعا لوحدة الصف، وتطهير النوايا، واستنفار الضمائر.
وما هذا سوى امتداد لسلوك سياسي مأزوم، شهدناه في أزمنة مختلفة، حيث لم تسلم القضية الفلسطينية، منذ عقود، من محاولات “التوظيف الإيديولوجي” و”الاستثمار الرمزي”، وخصوصا من طرف عدد من الفصائل الإسلامية في العالم العربي، بما فيها بعض المكونات الحركية في المغرب.
لقد جعلت فلسطين، في لحظات كثيرة، رصيدا نضاليا جاهزا لـ”إضفاء المشروعية”، وشحن “التعبئة”، و”ترميم الشرعية” حين تتآكل داخليا، وترفع لافتة فلسطين حين يكون المشروع السياسي في حاجة إلى التزكية، وتخفض حين تقتضي البراغماتية السياسية القرب من السلطة أو الصمت أمام تنازلاتها.
هذا التوظيف نابع من خلل بنيوي في فهم جوهر القضية، فقد تم التعاطي معها بوصفها “أداة تعبئة”، أكثر من كونها قضية تحرر إنساني كوني تتجاوز الحسابات الإيديولوجية، ومن هنا، أصبح التفاعل مع فلسطين خاضعا لمنطق “الرصيد الانتخابي” و”المكاسب الرمزية”، وأضحى صوت مناصرتها يقاس بميزان التموقع داخل التنظيم، لا بصدق الانتماء الأخلاقي والوجداني.
وعليه، فإن الخلاف الأخير لا يجب اختزاله في الموقف من التطبيع فقط، بل يجب النظر إليه كعلامة على أزمة أعمق تتعلق بمن يحتكر تمثيل فلسطين في الفضاء العمومي المغربي، ومن يملك الحق في التحدث باسمها، ومن يمنح صكوك التضامن، ومن يصادرها، وعندما تطرح هذه الأسئلة المقلقة بلغة الإقصاء، بدل لغة البناء، فإننا نكون قد وقعنا في فخ العدو نفسه، الذي لا يحتاج إلى جهد لاختراقنا، بقدر ما يعول على تنازعنا، وتشتتنا، وانشغالنا ببعضنا أكثر من انشغالنا به.
إن من أخطر ما يمكن أن يحدث اليوم أن تتحول فلسطين إلى مرآة تسقط عليها التيارات والتنظيمات أزماتها الداخلية، وتخفي بها خيباتها، وتطهر بها ماضيها، أو تهاجم بها خصومها، وما دامت القضية تستخدم بهذا الشكل، فإننا لن نكون أمام فعل تضامني خالص، بل أمام عرض دائم في “سوق النضال”، حيث يوزع المجد الرمزي كما توزع “الغنائم”.
ولعل الأدهى أن تستغل لحظة غزة اليوم، بكل ما فيها من دم وشهادة ومجازر، لتسجيل أهداف حزبية في ملعب الداخل، فالمسيرات التي يفترض أن تكون صرخات جماعية ضد الاحتلال، تتحول أحيانا إلى ساحات للتنافس الرمزي، ومبارزات تقاس فيها درجة النقاء النضالي، وترتب فيها المراتب في “من الأقرب إلى فلسطين؟”، وكأن القضية ميراث يقسم بين ورثة “غير شرعيين” للقضية..
إن الزخم الشعبي العاطفي تجاه غزة يجب ألا يستخدم وقودا لتكريس الزعامات، أو تسويق التنظيمات، بل يجب أن يستثمر لبناء رأي عام وطني واع ومتماسك، يحمل القضية في قلبه لا على لسانه، ويجعل من دعم المقاومة فعلا تاريخيا مستمرا، لا مناسبة آنية أو لحظة موسمية.
لهذا، فإن اللحظة تستوجب وقفة عقلانية وشجاعة، لنفصل بين فلسطين والخلافات التنظيمية، ففلسطين ليست حزبا، ولا تيارا، ولا جبهة، إنها جوهر الضمير العربي والإسلامي، واختبار دائم لصدقية الشعارات، ومرآة كاشفة لجوهر الإنسان.
إن المعركة الحقيقية ليست في طنجة، ولا في البلاغات، بل هناك، في غزة، في رفح، في جنين، في القدس، في الشتات، هناك حيث يذبح الوعي كل يوم، وتنتهك الكرامة كل لحظة، وتهان الإنسانية أمام صمت العالم.
إن ما غنمتموه رمزيا من فلسطين، ستدفعون ثمنه يوما ما…