كليمون روسي: “نيتشه أو الفرح كقوة قاهرة”

دينبريس
2020-06-13T09:03:53+01:00
featuredحوارات
دينبريس29 أبريل 2020آخر تحديث : السبت 13 يونيو 2020 - 9:03 صباحًا
كليمون روسي: “نيتشه أو الفرح كقوة قاهرة”

 اسحيردة  - دين بريسترجمة يوسف اسحيردة
حاوره كل من Aude Lancelin و Marie Lemonnier عن مجلة L’OBS
مؤلف كتاب “الضحك”، هنري برجسون، والذي يكن له الفريد والساخر كليمون روسي احتراما شديدا، يُعرف الفيلسوف الأصيل بالشخص الذي يمتلك حدسا وحيدا. ما هو يا ترى هذا الحدس في حالة نيتشه؟ ترابط الفرح والمأساة في الوضع البشري، يجيب كليمون روسي دون تردد.

حتى أن هذه القناعة شكلت ، بالنسبة لهذا الأخير، أول تَجَلٍّ فلسفي، ذلك الذي حدد ميوله، منذ قراءة ” ميلاد الترجيديا ” للكبير الألماني. نَعْرِفُ أن كليمون روسي، مؤلف عمل هو نفسه غاية في الأصالة، انطلاقا من “عدو الطبيعة” وصولا إلى “الواقع ونسخته”، غالبا ما يرجع إلى عملاق ألماني آخر، ارثر شوبنهاور، حتى أنه قد خصص له العديد من الكتب.

ومع ذلك، فقد طَوَّر طوال حياته تقاربا حقيقيا مع فكر نيتشه، الذي ينتمي مثله إلى الفئة القليلة المعادية للمثالية، هؤلاء الفلاسفة الذين يجدون لذة بالغة في زرع الشك العصي على التهدئة، وفي تعذيب الضمائر الحية شبه-إنسانية، وفي هدم اليقينيات المزيفة للجماهير. في هذا الحوار، يكشف لمجلتنا عن النَّسخ المزيفة التي لطالما شوشت على الفهم الصحيح لصاحب “العلم المرح” مستعيدا بذلك الخطوط العريضة لفكره.

صحفي المجلة : نيتشه هو واحد من بين أكثر الفلاسفة “المنبوذين” عبر التاريخ ، ورغم ذلك، فهو اليوم واحد من أكثر الفلاسفة مقروئية، وحبا، وتعليقا. كيف تشرحون هذا النجاح وهل هو في نظركم مبني على سوء فهم؟
كليمون روسي : كتبت فيما مضى نصا بعنوان ” نيتشه منبوذ أم مُخالطة بطريقة سيئة؟”. في الواقع، أعتقد بأنه تعرض لجميع أنواع سوء الحظ، بحيث ورثنا العديد من النُّسخ المُزورة لنيتشه. نيتشه الذي لعب دورا مهما في “صيرورتي الفلسفية”، هو في الحقيقية، نيتشه لم أجد له صدى عند أي فيلسوف، باستثناء جيل دولوز ولو قليلا، سأعود إلى الأمر بالتفصيل.

سوء حظ نيتشه الأول يأتي بداية من امتلاك أخت خانت أمانته، إليزابيت فورستر- نيتشه، وصِهر كان نازيا معروفا وقد سبق له إنشاء مُستعمرات للآريين الشباب في أمريكا الجنوبية حتى قبل أن يصل هتلر رسميا إلى السُّلطة. هذه الأخت وزوجها استولوا على مخطوطات نيتشه في لحظة كان فيها هذا الأخير قد فقد عقله تماما، حتى انهياره الكبير في يناير من سنة 1889، جاعلين منه الفيلسوف الرسمي لنظام جُنوني وإجرامي، في حين أنه لو عاش في زمن هتلر، لكان ضمن أوائل المُرشحين للسجن أو المعتقلات.

الحسنة الوحيد لهذه الأخت الوقحة، كانت في النهاية هي التعريف بنيتشه بشكل أسرع، نيتشه الذي كان يبيع بالكاد، حتى ذلك الوقت، عشرين نسخة سنويا وكلها منشورة من ماله الخاص – باستثناء كتابه الأول ” ميلاد التراجيديا” (1872)، الذي نشره فاغنر.

سوء حظ نيتشه الثاني، لاحقا، يتعلق بهايدغر والشُّهرة المبالغة فيها التي منحته إياها الفلسفة الفرنسية. هايدغر قد كتب أشياء رائعة، طيب، لكن الفرق بين الوجود والموجود ليس بالأمر الجديد في شيء، الرومانسية المثالية الألمانية دائما ما أقامت هذا التمييز، وكذلك فعل أفلاطون.

في حين أن هايدغر، طيلة الحرب العالمية الثانية، وبعد أن ترك النازية، راح يتحدث عن نيتشه في منتدياته من أجل إخلاء ذمته، لكنه في الحقيقة جعل وضعيته أكثر سوءا، بما أنه جعل منه مُجرد صلة وصل بين هيجل، كانط وهو، أي هايدغر ! وخاصة أنه فعل ذلك من خلال الإشارة إلى كتب لم يكتبها نيتشه بكل بساطة.

ص.م : تتحدث عن كتاب “إرادة القوة”؟
كليمون روسي : بكل تأكيد، ولا مقطع واحد من كتاب نيتشه المزعوم هذا، يحمل نفس تاريخ أو يتلو حقا البقية، وهنا يتعلق الأمر أيضا باختلاق كُلِّي لأخت نيتشه. مفهوم “إرادة القوة ” نفسه يلعب دورا جِدَّ مُبهم وثانوي عند نيتشه. وهكذا، فهايدغر لم يعتمد فحسب على هذا الكتاب المزيف، ولكنه ادَّعَى أيضا الارتكاز على كل ما “أحسه” نيتشه ولكنه “فَضَّل إخفاؤه أو عدم البوح به” والذي هو ليس شيئا آخر سوى فلسفة هايدغر نفسها. وهو ما يُمثل سوء فهم كبير!

لا يُوجد ما هو أكثر افتراء على نيتشه من هذا، نيتشه الذي لم يهتم قط بالأنطولوجيا (علم الوجود) والذي يعتقد بأن الوجود ليس هو المشكلة أبدا. بل العكس هو الصحيح، نيتشه يُوجد في صف دعاة الإثبات كسبينوزا، وليس دعاة النفي. الحقيقي بالنسبة له، هو الاحتكاك بالواقع دون التباس. في حين أن هايدغر ينتمي إلى معشر الفلاسفة الذين ينفون الحسي، الذين يميزون بين مستويين للحقيقة، مستوى “أنطولوجي” ضروري ، ومستوى “مَوِجُودِي” (ontique) غير ضروري.

يتعلق الأمر بنفس اللازمة القديمة التي تتردد منذ أيام بارمنيديس، والتي مفادها أن الواقع الحقيقي يُوجد وراء كل ما هو ظاهر، وكل ما هو حسي، وكل مقاربة فيزيائية عينية….في العصر الوسيط، وبشكل غاية في الطرافة، هؤلاء المفكرين الذين كانوا لا يعترفون بالخشب الملموس للكرسي مثلا، ولكن فقط ب “فكرة” الكرسي، كانوا يُدعون ب «الواقعيين”. في حين أن خصومهم كانوا هم “الاسميون”. يبقى أن هايدغر قد حَوَّلَ نيتشه، بالنسبة لأجيال بكاملها، إلى مجرد طيف سبق وجوده الخاص.

ص.م : رأينا أيضا بزوغ “نيتشاوية يسارية”…
ك.ر : إنه سوء حظ نيتشه الثالث : استعادته من طرف اليسار الفرنسي !(يضحك). في حقيقة الأمر، قام بعض المثقفين التقدميون أيضا بصناعة نُسخة نيتشاوية موافقة لتَوَهُّمَاتِهم. بعد نُسخة نيتشه اليميني المفزعة، ابتكر الفلاسفة الفرنسيون (كلوسوفسكي، فوكو، دولوز، دريدا والبقية) نسخة فاقدة لأي معنى تماما.

بطبيعة الحال، فأن يلاحظ المرء عند نيتشه كما عند ماركس، وجود نهج مشترك يهدف إلى تعرية العمليات اللاواعية التي تفضي إلى نشوء الأفكار الفيتيشية (fétiches)، أمر يحتفظ بوجاهته. لكن، إذا كان انتقاد الفيتيشات عند ماركس له ارتباطات لا يُمكن إنكارها مع ما يسميه نيتشه ب “الأفكار المزيفة”، فقد تم مع ذلك استعمال نيتشه من أجل دعم أطروحات ديمقراطية وتنعت ب “المُتقدمة” كان هو سيعجز عن مساندتها.

ص.م : نَعْرِفُ بأن فكرة “الإنسان الخارق” قد شكلت هدفا لشتى أنواع التأويلات المفزعة وبأن إيديولوجيِّي اليمين المتطرف قد سارعوا مبكرا إلى استخدامها استخداما متحيزا. كيف تفسرون أنتم هذا المفهوم؟
ك.ر : يتعلق الأمر بموضوع لا يصر نيتشه عليه كثيرا ولا يُوجد في الأقبية النيتشاوية الأفضل تهوية . يظهر في الفصل الثاني ل “هكذا تكلم زرادشت”، كتاب أعتبره، أنا، عملا نصف فاشل، بسبب اعتباره له إنجيلا خامسا، وأيضا لأنه كان الكتاب الذي كان يحتفظ به الجنود الألمان في حقائبهم إبان الحرب العالمية الثانية.

تُوجد طبعا صفحات مذهلة في هذا الكتاب، حَوَّلها مالر إلى معزوفة موسيقية في “السيمفونية الثالثة”، نذكر على سبيل المثال أغنية السِّكير، الجميلة جدا. وهو الكتاب الذي يتضمن قولة تختزل كل فِكر نيتشه : ” الفرح أشد عُمقا من الحزن”. المشكل الفلسفي الذي ينبري نيتشه لمواجهته، هو في حقيقة الأمر كالتالي : كيف يُمكن أن نقول نعم لحياة قاسية؟ والجواب يأتي على هذا النحو : يجب فعل ذلك، لأن الفرح أشد خصوبة من الحزن.

إذن، وبما أنك تسألني عما أعنيه ب “الإنسان الخارق” (Ubermensch)، فأنا أعتقد بأنه من الأفضل تفسير هذا المفهوم المزعج، ليس ب “الإنسان الأعلى”، وإنما ب ” الإنسان الذي يقع خارج نطاق ما يُمكن طلبه من إنسان”. في حين أن مواجهة القسوة الرهيبة للوجود دونما حاجة من أجل ذلك إلى الاستنجاد بعالم آخر والتعويض بعوالم خلفية، أي دونما حاجة إلى الاختباء في متاهات الحقد والأخلاق، أمر يتطلب مجهودا هو الأصعب من بين كل المجهودات.

لقد سبق لمونتايين قَوْلُهَا : ما هي أصعب مَهَمَّةٍ في الحياة؟ إنها العَيْش. لوكريتوس أيضا، وقبل مونتايين، كان يقول بأن العيش دون أوهام هو أقسى مهمة تقع على عاتق إنسان،و، إلى حد ما، تفوق قدراته. في حقيقة الأمر، لا وجود للإنسان خارق عند نيتشه، كل ما هنالك هو مجرد أُناس يتفوقون على أنفسهم ويبحثون عن التفوق على مُعضلة الوجود.

جيل دولوز قد فهم هذا الأمر جيدا، لذلك استثنيته قبل قليل. وقد كان على حق حين قال بأن إحدى أعظم مقولات نيتشه هي هذه : “علينا دائما أن ندافع عن الأقوياء في مواجهة الضعفاء”. الضعفاء يحتمون من مُعضلة العيش خلف شعور الضغينة والحقد. أما الأقوياء فيعرفون كيف يعيشون دونما حاجة إلى عُكَّاز. ومع ذلك يجب توخي الحذر، فنحن لا نعني مطلقا بالأقوياء الأشخاص الأقوى في المدينة، أي غوغاء أعلى السلم الاجتماعي. بصفة عامة، العكس هو الصحيح.

ص.م : أعمالك تعج بالأفكار النيتشاوية وهذا منذ كتابك الأول، “الفكر التراجيدي”، الذي ظهر سنة 1961. كيف بدأت علاقتك الشخصية بنيتشه؟
ك.ر : أولا، عليك أن تعرف بأنّْي كنت طفلا فرحا للغاية يردد طوال الوقت هذه الجملة: ” كم أنا سعيد بالعيش”. فقد كنت إذن أمتلك استعداد قبليا يرفعني إلى مصاف إثباتيِّ ومادِحي الحياة. ومع ذلك ففيلسوفي الأول كان هو شوبنهاور، والذي كانت كتبه متوفرة في بيت العائلة حيث قرأتها في السن الثالثة عشر أو الرابعة عشر، وذلك بكثير من الإعجاب.

نيتشه ظهر أكثر نحو السنة الأولى من الأقسام التحضيرية الأدبية (l’hypokhâgne). كان هناك أستاذ قد أوصانا بالقراءة له قليلا. وبالتالي فقد قرأت “جينالوجيا الأخلاق”، وقد شكل ذلك حدثا فارقا في حياتي. منذ السنة السادسة، أي منذ تعلم اللغتين اللاتينية والإغريقية، كان الحديث دائما في الفصل الدراسي عن سقراط، أفلاطون، وكل الكُتاب الذين، حتى القرن العشرين، ظلوا، في المطلق، فوق النقد الحقيقي. كم كان هذا كفيلا بإشعاري بالملل…وها بالنسبة لي قد جاء نيتشه الذي كان يشن هجوما مُسلحا على أفلاطون ! “لست وحيدا…نحن اثنان”، هكذا قلت مع نفسي حينها.

بعد ذلك، قرأت كل مؤلفات نيتشه تماما. ما فهمت إذن هو أن كل ما يمكنه أن يظهر بشكل سطحي عند نيتشه على أنه حنق ضد المسيحية، كان، في حقيقة الأمر، أكثر دهاء من ذلك. ما أود قوله، هو أن الأخلاق المسيحية (“أدر خدك الأيسر…”) تحتوي على نفاق قام نيتشه بإماطة اللثام عنه بشكل جيد، وأن واجب الفرح هو أيضا موضوع مسيحي يعيد نيتشه استخدامه بالكامل لصالحه.

إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر كلوديل، الذي كان نيتشاويا بشكل كامل، فلا يُوجد ما هو أكثر مسيحية وأكثر معاداة للمسيحية في الآن ذاته من نيتشه، بالنظر إلى المسيحية التي نتصورها بالطبع. علاوة على ذلك فنيتشه نفسه يقولها : مصيرهم الجحيم أولئك الذين يعتقدون بأنهم الأفضل.

ص.م : فقد كان عدوا مثاليا للجهاديين في نهاية المطاف…
ك.ر : عدوا مُطلقا، ولكنه لم يكن الوحيد. لقد انتبه في منتصف حياته إلى أن راديكالية سبينوزا كانت أيضا بنفس شمولية راديكاليته، وبأن الشر والخير، كما فكرة الخطأ، بالإضافة إلى أشياء أخرى، لم تكن سوى مفاهيم مُزيفة. لوكريتيوس سبق له أن فكَّر بنفس الأمر أيضا. أسطورة متأخرة ذهبت إلى أن لوكريتوس، هذا الشاعر الروماني، قد انتحر لاحقا، عندما اقتنع فجأة بفظاعة فلسفته الخاصة. (يضحك.) بالمناسبة، أنا نفسي قد حصل معي أن وجدت الدرس قاسيا بعض الشيء. مهما يكن من أمر، فقد كنت مقتنعا دائما بوجوب العيش وفق الحقيقة وضمن الفرح.

ص.م : هل “الحب القدري” (Amor Fati) هو ما تحتفظ به أكثر من أي شيء آخر في الدرس النيتشاوي في نهاية المطاف؟
ك.ر : صحيح أن نيتشه قد استعمل هذا التعبير، لكنه بالنسبة لي يحمل الكثير من الدلالات الرواقية. أعتقد بأنه يُوجد فرق بين حب الحياة والانصياع إلى الطريقة التي يُدير بها الفاتوم، أي القدر، الأمور. فليس بمقدورنا أن نمتلك حبا قدريا اتجاه المجانين الذين يقطعون الرؤوس مثلا ! نعم، حب حياتي، عوض حب قدري.

على خلاف ما قاله لوكريتوس، وأيضا سبينوزا، لا يجب الاستسلام للنظرة التي مفادها أن الآلهة تُسير مصير العالم، لكن لا يجب التمرد أيضا. تَعِرِفُ المثل : القدر يقود برفق من يتبعه، ويجر من يعانده.

بالنسبة لنيتشه، أولئك الذين يرفضون العيش ضمن الحقيقة هم أولئك الذين يرفضون مواجهة الطابع المأساوي للحياة، أي أولئك الذين لا يحتملونه ويحاربون هذا الأخير باسم قِيَمٍ – الحق، الخير، العدل، الجمال – حُبْلَى بالحقد والضغينة. لهذا فالضعفاء الحقيقيون هم دائما في حرب ضد الأقوياء الحقيقيين.

ص.م : هل سبق وشعرت بأنك توصلت إلى العيش كذلك، أي ما وراء الخير والشر، رغم أحداث الحياة القاسية؟
ك.ر : كان هذا هو حالي دائما في اعتقادي. أسوأ الفظائع تستثير بداخلي الحزن طبعا، وأحيانا الاحتقار، لكن أبدا اعتراضا كُليا على نظام العالم من خلال فكرة أن هناك خير وشر. ربما لأنني محظوظ بكوني لست متعودا إطلاقا على شعور السُّخط. السُّخط في نظري هو أكثر المقاربات الممكنة للواقع تزييفا. بهذا الصدد، كم كانت مفاجئتي كبيرة حين سماع الحديث عن حركة سياسية ل “الساخطين”. إنه إغراء يجب مقاومته دائما في اعتقادي. كما أن الأمر لا يتعلق بالمعاناة أو بالتلذذ في المأساوي. كل ما هنالك هو إثبات فرح العيش دون استبعادٍ لمأساوية الوجود.
حوار صدر في مجلة l’OBS بتاريخ 23 يوليوز 2015.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.