دين بريس. خاص
ينشر موقع دين بريس مقدمة كتاب حديث الإصدار، ألفه الباحث محمد زاوي، تحت عنوان “سلفية الشيخ محمد القباج: أصولها وخصائصها المنهجية” والصادر في غضون الأسبوع الجاري.
************************
عرفتُ الشيخ حماد القباج رحمه الله تعالى معرفة خاصة قبل حوالي سبع سنوات؛ وكان ذلك في ندوة -في موضوع “فكر الوسطية: بين التأصيل والتنزيل”-استدعيته لها ذات نشاط حزبي بسطات (2017)؛ بعد ذلك تفضل الشيخ الكريم بتزكيتي للالتحاق بأكاديمية ابن جزي لدراسة العلوم الشرعية بمراكش (فوج 2017). وقد كانت عنايته بي فائقة وكبيرة منذ ذلك العهد، فتأسست بيننا روابط المحبة وتقاسم الشغف العلمي والفكري، الإصلاحي والوطني.
وعام 2018، أسس الشيخ حماد القباج مؤسسته “منتدى إحياء للتنمية الأخلاقية والفكرية”، فعرض علي الالتحاق بها مشرفا على ناديها الفكري (نادي التنمية الفكرية)، ثم عضوا في الإدارة التنفيذية في ما بعد. وقد بقيت العلاقة العلمية والفكرية قائمة بيننا إلى آخر يوم من حياته رحمه الله تعالى، إذ أشرف بشكل خاص على نشر ثلاثة من كتبي (“الاستعمار الجديد”/ “أحرار بلا حرية”/ “مداخل فكرية للوعي بالقضية الفلسطينية”)، كذا على نشر عدد مهم من المقالات والدراسات والحوارات والدروس التي لم يكن يتدخل الشيخ في مضمونها، رغم علمه ببعض الاختلافات الفكرية والسياسية بيننا. ولذلك فإنني لم أكن أجد حرجا في إبداء اختلافي مع الشيخ، أو الإفصاح عن أفكاري بين يديه؛ فكان يتلقى ذلك بصدر حسن، دون أن تتأثر علاقتنا وتعاوننا بذلك.
قررت تأليف هذا الكتاب قبل وفاة الشيخ رحمه الله بسنتين، وكنت قد عرضت عليه تصميمه إذاك؛ فاستبشر به وأرجأ مناقشتي فيه إلى حين. ومن غريب الأقدار، أنني منذ ذلك الحين جمعت أغلب كتب الشيخ القباج في ركن من مكتبتي أراودها بين الفينة والأخرى، فأبت وكأنها تنتظر زمن الرحيل والفراق. ف”جاءت سكرة الموت بالحق”؛ فأيقظتنا من “سكرة الدنيا” وكشفت عنا “غطاء الغفلة”.. فارتأينا تحرير هذا الكتاب من حبر الحرقة والألم، لا تنهضُنا لتحمل الألم إلا مسؤولية البيان مخافة أن يضيع منهج الشيخ القباج في ركام من القول والقول المضاد.
وإننا لا نخوض غمار هذا الكتاب منقبين في صفحات كتب الشيخ رحمه الله تعالى -فحسب-، بل كانت لنا معه جلسات وحكايات؛ وقد وضع رحمه الله عندنا أمانة سيرته بعلنها الذي يعرفه الجميع، وسرها الذي تورع عن إعلانه في حياته. وإننا هنا نتورع كما تورع، ونكتفي بتعريف المغاربة والمسلِمين والعالَمين بفكر رجل لم يتوقف ذهنه عن الحركة إلا بحضور “هادم اللذات ومفرق الجماعات”. إن سيرته قصة تُروى، وقيمة لا تُطوى، وعلم وذكر يرفع الله بهما البلوى. هكذا عاش الشيخ حماد القباج رحمه الله تعالى، وليس ذلك بالمغالاة في سيرته.
***
سلفية الشيخ حماد القباج سلفية متفردة، تسامت بقيمها ومعارفها ووطنيتها حتى كادت تفارق “سلفية التيار”؛ بل إن من جالسه يعرف تفرده منذ أول وهلة، ويجد تجرده عن “تيار نشأ فيه” بعد تبادل أطراف الحديث في هذه المسألة أو تلك. فقد قاده نضجه العلمي والتاريخي إلى ربط “سلفيته الأثرية” ب”سلفية حركية إصلاحية”؛ وكان أن دفعه العمل الإصلاحي إلى البحث في تاريخ الفقهاء المغاربة ونضالهم، فوجد ضالته في “السلفية الوطنية”، سلفية أبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي وعلال الفاسي ومحمد المختار السوسي وعبد الله كنون ومحمد المكي الناصري، الخ.
وكان اقتداؤه بـ”السلفية الوطنية” متعدد المناهل والمصادر؛ فكان رحمه الله تعالى كأبي شعيب الدكالي في الدفاع عن السنة والحديث النبوي الشريف، وكان كعلال الفاسي في الدفاع عن الوحدة الترابية المغربية وتعميم اللغة العربية، وكشيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي في خوض المعركة الدستورية والديمقراطية، والمكي الناصري في رفض البدع و”علاج الخليقة” بصحيح السنن، وعبد الله كنون في تفسير القرآن وتقريبه من الناس، والمختار السوسي في العناية بتاريخ المغرب والتأريخ للحواضر والقرى (الشيخ حماد كان مهتما بالتأريخ لمراكش وله مشروع في ذلك)؛ إلى غير ذلك من رموز السلفية الوطنية الذين جعلهم محط تأسّ واقتداء.
وكان الشيخ رحمه الله تعالى حريصا على تقديم هؤلاء الفقهاء في أجمل صورة متغاضيا عن هفواتهم أو زلاتهم أو أخطاء ارتكبوها في حياتهم الخاصة أو العامة. وقد كانت حجته في ذلك -بعد اعتراض المحدث الأمين بوخبزة عليه (في رد له على رسالة الشيخ بوخبزة)- أنه يرى حاجة المغاربة إلى إظهار الخصال الحميدة لفقهاء “السلفية الوطنية”، أكثر مما هم في حاجة إلى التحقيق في حياتهم ومناقشة أخطائهم. فكأنه -رحمه الله-قرر مواجهة الاستهداف الثقافي والهوياتي -الذي لطالما انتقده ونبه إليه-بالقدوة الوطنية؛ وكذلك كان في مجمل الكتب والمقالات التي تناول فيها الشيخ موقف أو سيرة هذا الرجل أو ذاك من رموز “السلفية الوطنية”.
هذا، ولا تُعرَف مواقف الشيخ حماد القباج بالاستخلاص البسيط، وإنما بقدرة فكرية على الجدل والتركيب. فقد كان رحمه الله تعالى مع المذهبية وضدها، ومع الأشعرية وضدها، ومع الصوفية وضدها، ومع الحركية وضدها، ومع النضال السياسي وضده، ومع “السلفية” وضدها، ومع “القومية” وضدها، ومع المقاصدية وضدها، ومع الانفتاح الفكري وضده، الخ. لقد كان معها جميعا في حدود معينة، كما كان ضدها في حدود أخرى. وغرضنا في هذا الكتاب أن نوضح هذه الحدود، حفظا لتفرد الشيخ حماد القباج وتميزه في السلفية المغربية والفكر الإصلاحي الوطني.
***
هذا كتاب للتعريف بسلفية الشيخ حماد القباج رحمه الله تعالى؛ وهي سلفية وطنية مركّبة هذه خصائصها:
1-سلفية أثرية: مرتبطة بالسلف وتراثه.
2-سلفية “حركية”: تعمل بالعلم الشرعي في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة.
3-سلفية وطنية: تحمي الوطن بالسلف والسلف بالوطن.
4-سلفية مشاركة: ذات منهج سياسي إصلاحي.
5-سلفية مغربية: تراعي خصوصية التدين المغربي.
6-سلفية سلمية: ترفض العنف وتدعو إلى السلم والاستقرار.
7-سلفية “قومية”: مدافِعة عن اللغة العربية.
8-سلفية وحدوية: مدافِعة عن الوحدة الترابية المغربية.
9-سلفية منفتحة: تدعو إلى فهم العصر واستيعاب علومه الاجتماعية.
10-سلفية مقاوِمة: تواجه الاستعمار وتدعم المقاومة.
11-سلفية مقاصدية: تربط الأحكام بمقاصدها وتوازِن بين المصالح والمفاسد.
12-سلفية أخلاقية: تدعو إلى الإصلاح الأخلاقي وتؤمن بأولويته.
***
كتبه محمد زاوي، بسلا: بتاريخ 15 أبريل 2025.