إعداد وتقديم :ذ. محمد جناي
إن من أوجه الإعجاز الذي تضمنه كتاب الله جل وعلا : ما حواه من جمل قليلة المباني، عظيمة المعاني، يقرأ فيها المسلم الجملة المكونة من كلمتين أو ثلاث كلمات أو أربع، فإذا به يجد تحتها كنوزا من الهدايات العلمية، والإيمانية،والتربوية، والتي جاءت على صورة :(قواعد قرآنية).
وإن من أعظم مزايا هذه القواعد : شمولها، وسعة معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلا، بل هي شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعد تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعد تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعد لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات .
القاعدة الخامسة: ” وَلَا تَبْخَسُواْ اُ۬لنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ “
هذه قاعدة قرآنية تتصل بواقع الناس، سواء في أبواب المعاملات – وهذا الأصل في سياقها الذي وردت فيه- أم في أبواب تقييم الناس أو الأعمال ، كما سيأتي بيانه.
وهذه القاعدة القرآنية الكريمة تكررت ثلاث مرات في كتاب الله عز وجل كلها في قصة شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومنها في سورة الأعراف قوله تعالى : ” وَإِلَيٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباٗۖ قَالَ يَٰقَوْمِ اِ۟عْبُدُواْ اُ۬للَّهَ مَا لَكُم مِّنِ اِلَٰهٍ غَيْرُهُۥۖ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمْۖ فَأَوْفُواْ اُ۬لْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ اُ۬لنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُواْ فِے اِ۬لَارْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَاۖ ذَٰلِكُمْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُم مُّومِنِينَۖ (84)”.
ومن المعلوم أن من جملة الأمور التي وعظ بها شعيب قومه : مسألة التطفيف في الكيل والميزان، حيث كان هذا فاشيا فيهم، ومنتشرا بينهم، فهذا مثال – من جملة أمثلة كثيرة – تدل على شمول دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لجميع مناحي الحياة ، وأنهم كما يدعون إلى أصل الأصول وهو التوحيد ، فهم يدعون إلى تصحيح جميع المخالفات الشرعية، مهما ظن بعض الناس أنها مخالفات هينة، إذا لا يتحقق كمال العبودية لله تعالى إلا بأن تكون أمور الدين والدنيا خاضعة لسلطان الشرع.
وأنت إذا تأملت هذه القاعدة القرآنية وجدتها جاءت بعدم عموم النهي عن نقص المكيال والميزان، فهو عموم بعد خصوص، ليشمل جميع ما يمكن بخسه من القليل والكثير، والجليل والحقير.
قال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله :” وما جاء في هذا التشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمة ، لأن المعاملات تعتمد الثقة المتبادلة بين الأمة، وإنما تحصل بشيوع الأمانة فيها، فإذا حصل ذلك نشط الناس للتعامل فالمنتج يزداد إنتاجا وعرضا في الأسواق، والطالب من تاجر أو مستهلك يُقبل على الأسواق آمنا لا يخشى غبنا ولا خديعة ولا خِلابة ، فتتوفر السلع في الأمة، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها، فيقوم نماء المدينة والحضارة على أساس متين ويعيش الناس في رخاء وتحابب وتآخ، وبضد ذلك يختل حال الأمة بمقدار تفشي ضد ذلك”.
إذا تبين ذلك مدلول هذه القاعدة، وأن من أخص مايدخل فيها: بخس الحقوق المالية ، فإن دلالتها تتسع لتشمل كل حق حسي أو معنوي ثبت لأحد من الناس، وأن هذه القاعدة القرآنية كما هي قاعدة في أبواب المعاملات ، فهي بعمومها قاعدة من قواعد الإنصاف مع الغير،فالقرآن مليء بتقرير قاعدة الإنصاف، وعدم بخس الناس حقوقهم تأمل مثلا قول الله تعالى :” وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَيٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْۖ اُ۪عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْو۪يٰۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ ( المائدة :9)”، فتصور! ربك يأمرك أن تنصف عدوك، وألا يحملك بغضه على غمط حقه، أفتظن أن دينا يأمرك بالإنصاف مع عدوك ، لا يأمرك بالإنصاف مع أخيك المسلم ؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – معلقا على هذه الآية- : ” فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟! فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له “.
وفي واقع المسلمين ما يندى له الجبين من بخس للحقوق، وإجحاف وقلة الإنصاف ، حتى أدى ذلك إلى قطيعة وتدابر، وصدق المتنبي يوم قال :
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله ، يعلن شكواه قديما من هذه الآفة، فيقول :” ليس في الناس شيء أقل من الإنصاف”.
علق ابن رشد على هذه الكلمة فقال : ” قال مالك هذا لما اختبره من أخلاق الناس ، وفائدة الإخبار به التنبيه على الذم له ، لينتهي الناس عنه فيعرف لكل ذي حق حقه”.
وثمة صورة أخرى -تتكرر يوميا تقريبا- يغيب فيها الإنصاف ، وهي أن بعض الكتاب والسياسيين حينما ينتقد قطاعا حكوميا ، أو مسؤولا عن أحد القطاعات الوزارية ، يحصل منه إجحاف وبخس للجوانب المشرقة في هذا القطاع أو ذاك، ويبدأ الكاتب أو السياسي – بسبب النفسية التي دخل بها- لا يتحدث إلا من زاوية الأخطاء، ناسيا أو متناسيا النظر من زاوية الصواب والحسنات الكثيرة التي وفق لها ذاك المرفق الحكومي ، أو ذلك الشخص المسؤول.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف من أنفسنا، والإنصاف لغيرنا، وأن يجعلنا من المتأدبين بأدب القرآن العاملين به.
ـــــــــــــــــ
هوامش
* من كتاب ” قواعد قرآنية ، 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة “، أعدها الدكتور عمر بن عبد الله المقبل ،إصدارات مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية ، الطبعة الثالثة 2012، الرياض ،المملكة العربية السعودية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18350