إعداد وتقديم: ذ. محمد جناي
إن من أوجه الإعجاز الذي تضمنه كتاب الله جل وعلا: ما حواه من جمل قليلة المباني، عظيمة المعاني، يقرأ فيها المسلم الجملة المكونة من كلمتين أو ثلاث كلمات أو أربع، فإذا به يجد تحتها كنوزا من الهدايات العلمية، والإيمانية،والتربوية، والتي جاءت على صورة :(قواعد قرآنية).
وإن من أعظم مزايا هذه القواعد: شمولها، وسعة معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلا، بل هي شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعد تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعد تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعد لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات .
القاعدة الثالثة: “وَلَا يَحِيقُ اُ۬لْمَكْرُ اُ۬لسَّيِّۓُ اِ۪لَّا بِأَهْلِهِۦۖ “
تأتي هذه القاعدة القرآنية المحكمة لتبين سنة من سنن الله تعالى في تعامل الخلق مع بعضهم ، وقد جاءت هذه القاعدة القرآنية في سياق آيات في سورة فاطر ، يحسن ذكرها ليتضح معناها، يقول تعالى عن طائفة من المعاندين: ” وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٞ لَّيَكُونُنَّ أَهْد۪يٰ مِنِ اِحْدَي اَ۬لُامَمِۖ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٞ مَّا زَادَهُمُۥٓ إِلَّا نُفُوراًۖ (42) اِ۪سْتِكْبَاراٗ فِے اِ۬لَارْضِ وَمَكْرَ اَ۬لسَّيِّےِٕۖ وَلَا يَحِيقُ اُ۬لْمَكْرُ اُ۬لسَّيِّۓُ اِ۪لَّا بِأَهْلِهِۦۖ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ اَ۬لَاوَّلِينَۖ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اِ۬للَّهِ تَبْدِيلاٗۖ (43) وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اِ۬للَّهِ تَحْوِيلاًۖ (44)” [سورة فاطر].
ومعنى هذه القاعدة باختصار:
أن هؤلاء الكفار المعاندين أقسموا بالله أشد الأيمان : لئن جاءهم رسول من عند الله يخوفهم عقاب الله ليكونن أكثر استقامة واتباعا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم مازادهم ذلك إلا بعدا عن الحق ونفورا منه، وليس إقسامهم لقصد حسن وطلبا للحق، وإنما هو استكبار في الأرض على الخلق، يريدون به المكر السيئ ، والخداع والباطل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم، فلن تجد لطريقة الله تبديلا ولا تحويلا فلا يستطيع أحد أن يبدل ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه أو غيره.
وأما الأمثلة التي تبين معاني هذه القاعدة، فكثيرة في كتاب الله تعالى، لكن حسبنا أن نشير إلى بعضها، فمن ذلك:
أولا : ما قصه الله تعالى عن مكر إخوة يوسف بأخيهم، فماذا كانت العاقبة؟ يقول تعالى :”وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمُۥٓ إِذَ اَجْمَعُوٓاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَۖ ( يوسف :102)، صحيح أن إخوته تابوا، لكن بعد أن آذوا أباهم وأخاهم بأنواع من الأذى، فعاد مكرهم على غير مرادهم، وفاز بالعاقبة الحسنة ، والمآل الحميد من صبر وعفو وحلم.
ثانيا: قوله تعالى عمن أرادوا كيدا بنبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام :”وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اَ۬للَّهُۖ وَاللَّهُ خَيْرُ اُ۬لْمَٰكِرِينَۖ ” ( آل عمران :53).
ثالثا: لما تحايل المشركون بأنواع الحيل لأذية نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله عنهم :” وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَ۬لذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَۖ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اُ۬للَّهُۖ وَاللَّهُ خَيْرُ اُ۬لْمَٰكِرِينَۖ (الأنفال :30)،فكانت العاقبة له عليه الصلاة والسلام.
ولهذا لما كان المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، والكيد له عظيما ، سلاه الله بآية عظبمة، تبعث على الثقة والطمأنينة، والأمل والراحة، ليس له صلى الله عليه وسلم وحده، بل لكل داعية يسير على نهجه ممن قد يشعر بكيد الكائدين ومكر الماكرين، فقال عز وجل :”وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِۖ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِے ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَۖ (127) إِنَّ اَ۬للَّهَ مَعَ اَ۬لذِينَ اَ۪تَّقَواْ وَّالذِينَ هُم مُّحْسِنُونَۖ (128)” [سورة النحل].
(( فالله حافظه من المكر والكيد ، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته، لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه، ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره ، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة : ” ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون)).
والمهم أن يحفظ سياج التقوى، ولا يقطع إحسانه إلى الخلق ، ثم ليبشر بعد ذلك ببطلان كيد الماكرين.
ولعلك تلاحظ في هذه القاعدة القرآنية : أن المكر من حيث هو لا يذم ولا يمدح إلا بالنظر في عاقبته، فإن كان المكر لغاية صحيحة فهو ممدوح ، وإلا فلا.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أمثلة تطبيقية وعملية من واقع الناس لهذه القاعدة في سياق حديثه عن المتحايلين على الأحكام الشرعية، كالمتحايلين على أكل الربا ببعض المعاملات ، أو يحتالون على بعض الأنكحة، وأمثال هؤلاء، فقال:”فالمحتال بالباطل معامل بنقيض قصده شرعا وقدرا، وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمكر مات بالفقر، ولهذا عاقب الله عز وجل من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها، وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير، وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله، كما قال تعالى :” يَمْحَقُ اُ۬للَّهُ اُ۬لرِّبَوٰاْ وَيُرْبِے اِ۬لصَّدَقَٰتِۖ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفّ۪ارٍ اَثِيمٍۖ ( البقرة 275) “، فلا بد أن يمحق مال المرابي ولو بلغ ما بلغ ، وأصل هذا أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم.
وهذا باب واسع جدا عظيم النفع، فمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته، بأن يعكس عليه مقصوده شرعا وقدرا ، دنيا وأخرى، وقد اطردت سنته الكونية سبحانه في عباده بأن : من مكر بالباطل مكر به ، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خدع ، قال الله :” اِنَّ اَ۬لْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اَ۬للَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْۖ” وقال تعالى :”وَلَا يَحِيقُ اُ۬لْمَكْرُ اُ۬لسَّيِّۓُ اِ۪لَّا بِأَهْلِهِۦۖ “، فلا تجد ماكرا إلا وهو ممكور به ، ولا مخادعا إلا وهو مخدوع ولا محتالا إلا وهو محتال عليه”.
ــــــــــــــــــــ
هوامش
* من كتاب ” قواعد قرآنية ، 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة “، أعدها الدكتور عمر بن عبد الله المقبل ،إصدارات مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية ، الطبعة الثالثة 2012، الرياض ،المملكة العربية السعودية.
Source : https://dinpresse.net/?p=18219