ذ. محمد جناي
الحمد لله الحي القيوم، الذي جعل أحب الأعمال إليه ما يدوم، وصلى الله وسلم على محمد الذي كان إذا عمل عملا أثبتَه، وهو القائل: (( أحب العمل إلى الله أدوَمُه))، وفي هذا الحديث تخبر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن العمل القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
فها هي أيامُ رمضانَ قد انقضت فينبغي للمسلم أن يسأل ربه قبول عمله في نهاية هذا الشهر الفضيل. وقد كان دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد من البيت: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
وينبغي أن يخاف ويخشى ألا يُقبَلَ منه ما عمله في رمضان. قال الله تعالى:{وَالذِينَ يُوتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ اَنَّهُمُۥٓ إِلَيٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ * أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِے اِ۬لْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَۖ * وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً اِلَّا وُسْعَهَاۖ وَلَدَيْنَا كِتَٰبٞ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَۖ} [المؤمنون:61 – 62 – 63].
أي: الذين يُعطُونَ ما أعْطَوا من زكوات وصدقات وغير ذلك، والحالُ أن قُلوبَهم خائفة من رجوعهم إلى ربهم، وبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاء ، فيخافون ألا يُتقبل منهم ، أولئك يُسابقون في عمل الطاعات.
وإن من علامة قبول الطاعة أن تُوصَلَ بطاعةٍ بعدها، وعلامةُ ردها أن توصَلَ بمَعصية عَقِبَها.
والعاقل لا يبني بيتا ثم يُهدمه، أو يُنشئ مشروعا ثم يُهمله، فلا يُعقَلُ أن يهدم المسلم ما بناه في رمضان بمجرد انتهاء الشهر فعلى المسلم أن يحافظ على مكتسباته من الأعمال الصالحات في رمضان، هذه المكتسبات التي تبقى له أجرا مدخرا، وتكون له يوم لقاء الله ذُخرا.
وليحذر أن يكون مثل المرأة التي قال الله تعالى عنها:{وَلَا تَكُونُواْ كَالتِے نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٍ اَنكَٰثاٗ} [النحل:92]، يعني لا تكونوا كالمرأة الغازلة التي تغزل الصوف، ثم إذا غزلته وأتقنته نقضته ومزقته! بل دوموا على ما أنتم عليه، ففيه دلالة على أن الإنسان ينبغي أن يحافظ على ما اعتاده من الخير.
وإذا كان الإنسان يبني ثم يهدم، والعمر يمضي ، فذلك يعني أن الموت قد يأتي وهو خاو ومفلس تماما، وهنا مثل ضربه الله تعالى لتقريب ذلك المعنى، فقال :{اَيَوَدُّ أَحَدُكُمُۥٓ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعْنَٰبٖ تَجْرِے مِن تَحْتِهَا اَ۬لَانْهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ اِ۬لثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ اُ۬لْكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَاحْتَرَقَتْۖ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُ اُ۬لَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَۖ} [البقرة:265].
روى البخاري عن عبيد بن عمير، قال: (( قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت:{اَيَوَدُّ أَحَدُكُمُۥٓ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعْنَٰبٖ تَجْرِے مِن تَحْتِهَا اَ۬لَانْهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ اِ۬لثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ اُ۬لْكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَاحْتَرَقَتْۖ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُ اُ۬لَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَۖ} [البقرة:265]، قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال عمر: يا ابن أخي: قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس : ضُربت مثلا لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله)).
فالآية تصور رجلا له جنة مثمرة من نخيل وأعناب، فكبر في السن ، وأولاده صغار لا قدرة لهم على الكسب، فأصاب تلك الجنة ريح عاصفة فيها نار، فاحترقت ، ففقدها وهو أحوج ما يكون إليها؛ فالفاقة في الشيخوخة أصعب، وفي هذا الأثر تفسير لهذا المثل؛ فضرب لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بُعِثَ له الشيطان، فعمل بالمعاصي فأضاع أعماله الصالحة بذلك، ثم احتاج إلى شيء منها في أشد أحواله، فلم يبق لديه أي رصيد منها.
ثم قال الله تعالى في نهاية هذا المثل:{كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُ اُ۬لَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَۖ}.
فلو تصور كل عاقل هذا المثل، وتأمله كما ينبغي، لم يُقدم على ما فيه مضرته وندامته، ولما سولت له نفسه إحراق أعماله، وإضاعة أجورِها. وإن مما يعين على الحفاظ على المكتسبات الرمضانية مع الاستمرار عليها والزيادة منها: شكر الله تعالى على نعمة إدراك رمضان والتوفيق فيه. فإن الله تعالى يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمُۥٓ إِنَّ عَذَابِے لَشَدِيدٞۖ } [إبراهيم: 9].
ومن تمام الشكر استدامة الطاعة، والثبات عليها، وتجويدها، فيزيد إحسانا فوق إحسان،وطاعة بعد طاعة. ولقدحث الشارع على الاستمرار في طريق الاستقامة بعد رمضان.
ومن أهم الأمور التي ينبغي للمسلم استصحابها بعده: التقوى. فمن أهم منجزات رمضان التي شُرع صيامه من أجلها: أن يستصحب العبد حالة التقوى في الأعمال الظاهرة والباطنة في كل لحظة من عمره.
ومن الأعمال التي ينبغي للمسلم استصحابها بعد رمضان: الصيام. فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)).
فمن صام شهر رمضان كاملا، ثم صام بعده ستة أيام من شوال متواليات أو متفرقات؛ كان له من الأجر مثل ما يعادل صيام العام كله، وهذا من عظيم فضل الله على عباده، فالحسنة بعشر أمثالها، وعليه فرمضان بمنزلة عشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر تمام السنة.
ومن الأعمال التي ينبغي للمسلم استصحابها بعد رمضان: قيام الليل. فالمسلم الذي قام شهر رمضان كاملا أيعجز أن يقتطع من ليله شيئا ولو يسيرا ليصلي فيه لربه، ويتلو كلامه؟!
فعن عبدالله بن عمرر ضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي من الليل)). فكان بعد لاينام من الليل إلا قليلا.
ومن الأعمال التي ينبغي للمسلم استصحابها بعد رمضان: تلاوة القرآن وتدبره. ففي رمضان أقبل المسلم على القرآن ، تلاوة وتدبرا، فحري أن لا يهجره أبدا حتى لا يدخل تحت قول الله تعالى: {وَقَالَ اَ۬لرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِيَ اَ۪تَّخَذُواْ هَٰذَا اَ۬لْقُرْءَانَ مَهْجُوراٗۖ} [الفرقان: 30].
وهجره أنواع، منها: هجر سماعه والإصغاء إليه، وهجر تلاوته، وهجر تدبره، وهجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وهجر تحكيمه.
وينبغي للمسلم أن يسارع في الخيرات بعد رمضان وأن يلتمس أسباب المغفرة. فمن الأعمال أعمال يسيرة جدا قد تكون سببا في مغفرة الذنوب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له، فغفر له)).
ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات ، والمداومة على الطاعات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.