ذ.محمد جناي
الحمد لله الذي أمر بالصدقة، ووعد الخَلَفَ عليها ، فقال: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.[ سبأ: 39]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن الصدقة في الإسلام لها فضل عظيم ومكانة عالية. فالصدقة تدل على صدق إيمان الإنسان بالله وإيمانه بالجزاء عند مولاه.
وإن الإنسان بطبيعته يحب المال حبا جما، فيبخل به ويشح عن إنفاقه من شدة حرصه وطمعه وخوفه من نفاده. لذا وردت النصوص بما يزيل هذا الحرص والخوف يُقبِلَ عليها المسلم بنفس طيبة وحُسنِ ظن بالله تعالى، ومن ذلك تسميتها قَرضاً، والقَرضُ من شأنه أن يُرَدَّ، كما قال الله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة: 245].
ومنها إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (ما نقصت صدقة من مال)، كما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. فالصدقة لا تكون سببا في نقص المال ، بل تزيد أضعاف ما يعطى منه بأن يَنجَبِرَ بالبركة، في النفس أو الأهل، أو في المال ذاته، وهو وإن نقص حِسًّا إلا أن في ثوابه جَبراً لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة.
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:(ما من يوم يُصبِحُ العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تَلَفاً).
فيدعو أحدهما بأن يعطي الله للمتصدق خَلَفاً وعوضا عما أنفقه. وإن المال في حقيقته مِلكٌ لله، وهو عندك أمانة ووديعة يختبرك بها الله. قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة: 254].
ويوم القيامة أنت أحوج ما يكون إلى ظل يقيك شمس ذلك اليوم ؛ لتسلم من شدة حرارتها ووهجها، فتكون الصدقة سببا في إظلالك.
صح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:(كل امرئ في ظل صدقته، حتى يُقضى بين الناس). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
فينبغي المسارعة إلى الخيرات -ومنها الصدقة- خاصة في أيام هذا الشهر المبارك، وقد ذكر الله تعالى أن الإنسان يتمنى وقت موته منحه فرصة أخيرة قبل قبض روحه ليتصدق. فقال الله تعالى: { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَّاتِيَ أَحَدَكُمُ اُ۬لْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَآ أَخَّرْتَنِےٓ إِلَيٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ اَ۬لصَّٰلِحِينَۖ * وَلَنْ يُّوَ۬خِّرَ اَ۬للَّهُ نَفْساً اِذَا جَآءَ اجَلُهَاۖ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ } [البقرة: 10- 11].
وأصل الصدقة ما يخرجه المرء من ماله متطوعا به، ولأن الشريعة الإسلامية جاءت باليسر والرحمة بالناس إجمعين، لم يجعل الله الصدقة حكرا على أهل الغنى ومن عنده فضل مال، بل وسع باب الخير والبر أمام عباده، ليشمل كل معروف يبذله المسلم. فينبغي أن يُعلم أن الصدقة لا تنحصر في بذل المال فقط، وإن كان هو أعظمها لشدة الحاجة إليه، وبه قوام الحياة ، بل ثمة أنواع أخرى من الصدقات فيها إحسان للخلق، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم صدقة.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:(كل معروف صدقة). وفي هذا الحديث يوضح صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ويؤكده، حيث يخبرنا أن فعل المعروف صدقة عند الله، يثيب المؤمن عليه، ويجازيه به ، وإن قل، لعموم قوله (كل معروف صدقة)، فكل معروف يصنعه الإنسان من أعمال الخير والبر له حكم الصدقة في الثواب.
فمن الصدقات : تقديم عون، أو إزالة حاجة، أو كف أذى، أو تخفيف من عبء، ونحو ذلك.
ومن ذلك:
البشاشة والتبسم في وجه الآخرين. قال صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق). أي: بوجه بشوش متبسم.
والكلمة الطيبة صدقة. قال صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الطيبة صدقة). سواء كانت طيبة في حق الله تعالى، كالتسبيح والتكبير والتهليل، أو في حق الناس. فالإنسان أحوج ما يكون إلى كلمة طيبة من أخيه المسلم؛ كلمة صادرة من قلب يحب له الخير؛ كلمة تذهب ضيق صدره، أو تدخل السرور في نفسه.
والسلام على من لقيت صدقة. صح عن أبي ذر رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :(( تسليمه على من لقي صدقة)). ففي السلام على أخيه المسلم إعلان بمسالمته فلا يخشى منه سوءا.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة. قال صلى الله عليه وسلم: (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة). لأن في الأمر بالمعروف إيصالا للخير إلى الناس، وفي النهي عن المنكر كف للشر عنهم.
ومعاونة الآخرين صدقة. قال صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة). فيعين أخاه على ركوب دابته وغيرها من وسائل النقل إن لم يستطع الركوب بنفسه، أو يعينه بوضع متاعه عليها، فتلك صدقة. وثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:(كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك)، أي: تفرغ الماء من دلوك في وعاء أخيك المسلم.
وسُقيا الماء صدقة. قال صلى الله عليه وسلم: (والشربة من الماء يسقيها صدقة).
والإرشاد إلى الطريق صدقة. قال صلى الله عليه وسلم: (ودل الطريق صدقة). أي: دلالته والإرشاد إليه لمن لا يعرفه.
وإزالة الأذى عن الطريق صدقة. قال صلى الله عليه وسلم: (ويميط الأذى عن الطريق صدقة).
وجماع الزوج لزوجته صدقة. روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :(وفي بُضعِ أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). فهو بذلك يلبي حاجته وحاجة أهله الغريزية بالحلال، فيُعِفُّ نفسه وإياهم عن الحرام.
واللقمة يضعها الرجل في فم زوجته صدقة. قال صلى الله عليه وسلم: (ومهما أنفقت فهو لك صدقة،حتى اللقمة ترفعها فِي في امرأتك). وهو عمل يسير لكنه يلبي حاجة المرأة في حب الاهتمام بها وإظهار المودة لها.
فيا من لم يتَّسِعْ ماله للتصدق على الفقراء والمساكين، فليَسَعْهم منك ابتسامة، وبذل سلام، وكلمة طيبة، وحسن خُلُقٍ. فليَسَعْهم منك إسداءُ نفع أو معاونة، أو إزالة ضرر، إلى غير ذلك، وإلا فكُفَّ عنهم أذاك؛ فهو صدقة.
ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (على كل مسلم صدقة، قيل : أرأيت إن لم يجد؟ قال : يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قيل : أرأيت إن لم يستطع؟ قال : يعين ذا الحاجة بالمعروف أو الخير، قال : أرأيت إن لم يفعل؟ قال : يمسك عن الشر ؛ فإنها صدقة).
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.