ذ. محمد جناي
إن الله شرع لعباده في ختام هذا الشهر عبادات جليلة يزداد بها إيمانهم، وتقرّبهم إلى ربهم، وتكمل بها عبادتهم، وتتم بها نعمة ربهم عليهم. ومن أهمها: زكاة الفطر، التي تأتي كأفق رحب للصفاء الإنساني، وكلمة أخيرة ينطق بها القلب قبل أن تُطوى صفحة الطاعة.
وهي ليست إحسانا من كريم لمحتاج، بل فرض يعيد للإنسانية عافيتها، ويمنح المجتمع توازنا مفقودا، فلا يبقى في عيد الفطر جائع ينظر إلى الموائد بحسرة، ولا محروم يشعر بأن العيد ليس له. فشرعت في نهاية شهر رمضان لتكون للصائم طهرة مما اعترى صيامه من اللغو والرفث.
كما ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين)).
واللغو: هو الكلام الباطل، والرفث: الكلام الفاحش القبيح.
فهي ترفع الخلل الواقع في الصوم؛ لأن الحسنات يُذهبن السيئات.
ولهذا قال بعض العلماء: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة، فكأنها جبران للصائم لما دخله من النقص بحصول الآثام من اللغو والرفث والكذب والغيبة والنميمة وأكل الشبهات وغير ذلك، فجعلت هذه الصدقة مكفرة لها ومتممة للصيام جابرة له، كالسجود للسهو.
والزكاة من فضائلها تطهير المسلم من ذنوبه. قال الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 104].
أي: خذ من أموال المسلمين صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم، وتنمي أموالهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وفي ثوابهم الدنيوي والأخروي.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: وادعُ للمسلمين عند أخذك صدقاتهم؛ لأن دعاءك لهم طمأنينة وراحة لقلوبهم.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 105]. أي: ألم يعلموا أن الله وحده هو الذي يقبل التوبة من التائبين، ويقبل الصدقات من عباده إذا كانت طيبة خالصة لله رب العالمين؟
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تصدق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُربي أحدكم فَلوَّه أو فصيله)).
وفي الحديث: أن الله عز وجل لا يقبل من الصدقات إلا التي كانت من كسب حلال، وتلك الصدقة الطيبة يتقبلها الله عز وجل بيمينه كرامة لها، وكلتا يدي الله يمين مباركة، ثم ينميها ويضاعف أجرها لتثقل في الميزان، كما يربي المرء مهره الصغير من الخيل الذي يحتاج للرعاية والتربية، حتى تكون مثل الجبل حجما وثقلا يوم القيامة.
وأن الصدقة لا تُقبل عند الله تعالى إلا إذا كانت طيبة؛ بأن تكون خالصة لله، ومن كسب حلال. وفيه: أن الصدقة لا تُقوّم بحجمها، وإنما تُقوّم بإخلاص صاحبها، وبالمال الذي خرجت منه، حلالا كان أو حراما.
وفيه: أن الأعمال الصالحة تُحول يوم القيامة إلى أجرام مادية، لها صورة وحجم ووزن، فتُوضع في ميزان العبد، وتوزن في كفة حسناته. وثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار)). فإخراج الصدقات يمحو الذنوب والخطايا، كما يطفئ الماء النار ويزيلها.
والزكاة سبب من أسباب الفلاح.
قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14-15]. فعلى قول بعض المفسرين، {تَزَكَّى} أي: أدى زكاة الفطر، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} أي: ذكر الله في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام، والصلاة هي صلاة العيد.
ومن حكم مشروعية زكاة الفطر كذلك:
أولا: أنها طعمة للمساكين؛ ليستغنوا بها عن السؤال يوم العيد، ويشتركوا مع الأغنياء في فرحة العيد.
ثانيا: أنها زكاة للبدن؛ حيث أبقاه الله تعالى عاما من الأعوام، وأنعم عليه بالبقاء؛ ولأجل ذلك وجبت للصغير الذي لا صوم عليه.
ثالثا: أنها من شكر نعم الله على الصائمين بالصيام.
رابعا: حصول الثواب والأجر العظيم بدفعها لمستحقيها في وقتها المحدد.
وزكاة الفطر واجبة على كل مسلم ملك ما يزيد عن قوته وقوت من يلزمه، سواء كان صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا.
ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)).
وتجب على الأب عن أولاده الصغار الذين لا أموال لهم، إذا أمكنه ذلك. ولا تجب عن الجنين في بطن أمه.
والأفضل إخراجها بعد صلاة الفجر يوم العيد وقبل صلاة العيد. ويجوز تعجيلها عن وقتها بيوم أو يومين فقط.
وتخرج من قوت البلد، كالتمر والأرز، والدقيق ونحو ذلك؛ لأن نفوس المستحقين إنما تتشوف لمثله في يوم العيد.
والقدر الواجب في زكاة الفطر صاع من طعام، وهو 2.5 كيلوجرامات (المجلس العلمي الاعلى بالمغرب حددها نقدا في 23 درهما).
وينبغي للمسلم أن يخرجها بطيب نفس، ويقدمها لمن يستحقها دون منّ أو أذى، ويستشعر حكمتها، ويحتسب الأجر عند الله تعالى فيها، ولا يؤديها وكأنها مجرد عمل اعتاد عليه، بل يُحدث نفسه بفوائدها، ويحمد الله تعالى الذي أعطاه من فضله، ومنع غيره.