25 مارس 2025 / 09:40

“قطوف رمضانية”.. رمضانُ والتَّوبةُ

ذ. محمد جناي
إن من أعظم ما ميز الله به شهر رمضانَ المبارك؛ تصفيد الشياطين فيه، وترك الفرصة مواتية لمن أسرف على نفسه بالذنوب أن يتوب ويكثر من صالح الأعمال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين).

فالحمد لله التواب الرحيم، الذي جل جلاله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيءُ النهار، وبالنهار ليتوب مُسيءُ الليل، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فلا يخلو إنسان من معصية، لكن حال المؤمن مع ذنوبه ليس كحال الفاجر.

فحال المؤمن مع ذنوبه كرجل قاعد تحت جبل يخافُ أن يقع عليه، فالمؤمن ينظر إلى عظمة الله عز وجل، وجلاله، وعز سلطانه، وغناه عن خلقه، وفقر خلقه إليه، ويعلم أن يسير المعصية عنده جل جلاله ليس بيسير.

بينما ينظر الفاجر -وهو الفاسقُ المُستهترُ- لذُنوبه باستخفافِ، حتى إنه يرى كبائر الذنوب سهلة يسيرة، كأنها ذباب مر على أنفه فأشار بيده، فذهب الذباب ولم يؤثر فيه، لا لخفة ذنوبه، ولكن لخفة إيمانه بالله سبحانه.

لذا، فالمؤمن يسارع إلى التوبة إلى الله عز وجل من الذنوب والمعاصي؛ فقد أمر الله تعالى بها، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].

{توبة نصوحا}أي: توبة صادقة بنية خالصة، مع إقلاع عن الذنوب، وندم عليها، وعزم على عدم العودة إليها، ومتحللا من ظلم العباد برد حقوقهم، وطلب عفوهم.

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت ، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده).

فتصور مشهد رجل نزل في أثناء سفره أرضا خالية لا نبات فيها، وكانت معه دابة يركب عليها وفيها طعامه وشرابه، وبعد تعب من السير أخلد للراحة، فنام نومة لا يشعر معها بما حوله، ثم استيقظ وقد ذهبت دابته وتاهت في تلك الصحراء، فظل يبحث عنها حتى اشتد عليه الحر والعطش، وبعد محاولات مضنية من البحث دون جدوى حدَّث نَفْسَه بأن يرجع إلى مكانه الذي نام فيه لينتظر الموت ،فرجع فنام ثم استيقظ فوجد دابته أمامه قد عادت إليه، فلا شك أن من هذه حاله يفرح فرحا شديدا، حتى إنه اضطرب فأخطأ من شدة الفرح ، فقال ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، كما جاء في رواية أخرى.

فاعلم أن الله سبحانه أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل.

والله يحث عباده على التوبة مهما عظمت الذنوب وكثرت الخطايا.

قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

فجاء النهي الإلهي لجميع العباد الذين أثقلوا أنفسهم بالآثام، عن اليأس من رحمة ربهم معتقدين أن الله لن يغفر لهم ذنوبهم؛ فإن اللائق به أن من لجأ إليه لا يخيبه ولا يرده.

وقوله : {قُلْ يَا عِبَادِيَ} فيه إقباله سبحانه عليهم، وإضافتهم إليه، وفيه من التودد إليهم والتلطف بهم ما يحث على المبادرة بالتوبة.

وتأمل ما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه؛ حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).

فهذا الحديث العظيم يبين أن الله يقبل التوبة عن عباده وإن تأخرت بعد ارتكاب الذنب، فإن أذنب العبد ذنبا بالنهار وتاب بالليل، قبل الله توبته، وإن أذنب ذنبا بالليل وتاب بالنهار، قبل الله توبته، وبسط يده سبحانه يتلقى بهما التوبة التائب فرحا بها، وقبولا لها، ولا يزال الأمر كذلك بالعباد حتى تطلع الشمس من مغربها.

ثبت عن صفوان بن عسال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يُغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله عز وجل :{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَاتِيَهُمُ اُ۬لْمَلَٰٓئِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۖ يَوْمَ يَاتِے بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً اِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنَ اٰمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِےٓ إِيمَٰنِهَا خَيْراٗۖ قُلِ اِ۪نتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَۖ } [الأنعام: 159].

كما لا تقبل توبة من حضره الموت، قال الله تعالى:{وَلَيْسَتِ اِ۬لتَّوْبَةُ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لسَّيِّـَٔاتِ حَتَّيٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اُ۬لْمَوْتُ قَالَ إِنِّے تُبْتُ اُ۬لَٰـنَ وَلَا اَ۬لذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌۖ ا۟وْلَٰٓئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماٗۖ} [النساء:18]، فالآية دالة على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فإن توبته غير مقبولة.

إن رمضان فرصة عظيمة لأن يَرِقَّ قلب المؤمن بسبب الصيام وبسبب التأثر بمواعظ القرآن والإقبال على طاعة الرحمن، مما يُذكر بلقاء الله ، ويطرد الغفلة عن الموت والبعث وأهوال القيامة، والحساب والجزاء فيها، وهذا يحمل على شدة الرغبة في التخلص من الذنوب وآثارها، والمعاصي وشؤمها فيجتهد في طلب المغفرة من الله وأن يقبل توبته ويعفو عنه قبل أن يدركه الموت، ولن ينفع الندم حينئذ.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.