8 يوليو 2025 / 19:59

قراءة مُختصَرة في فكر مالك بن نبي

محمد زاوي

1 ـ في فكر مالك بن نبي

مالك بن نبي رجل تقني، انفتح على الإسلاميات بحكم انتمائه واهتمامه بالمسألة الدينية مذ كان طفلا صغيرا، كما انفتح على الاجتماعيات فيما بعد لعله يجد من خلالها حلولا لمشاكل الحضارة الإسلامية. يجمع مالك بن نبي في مشروعه بين رغبتين، رغبة أولى في تفسير وفهم واقعه، وثانية في تمكين الفكرة الدينية من سلطة في هذا الواقع.

عموما، يعبر مالك بن نبي عن وجه مشرق في فكر الإسلاميين. لم يكن مشرقا بما فيه الكفاية، لنقص وضعانيته وغياب اجتماعيته وتاريخيته؛ إلا أن له حظوظا من البحث عن طريق واقعي لاستئناف الحضارة. وهو في هذا غير مشاريع إسلامية أخرى تضفي نوعا من “السحر” على كل “عمل إسلامي”. إنه كذلك، وإن راهن ـ أو وضع ثقته ـ في الفكرة الإسلامية كحقيقة يسندها الوحي.

في أول كتبه “الظاهرة القرآنية”، يرى مالك بن نبي أن القرآن معجز لا في بلاغته فحسب، بل في ظواهر الكون والحياة كلما تقدم بالناس الزمن.. وإعجازه دليل نبوته، بالإضافة إلى أدلة أخرى مثل “إجبار النبي على النبوة”.

ولما كان القرآن كذلك احتاج في قراءته إلى تمييز بين التفسير والتأويل، حتى لا تستحيل الإسقاطات التأويلية (تفسير القرآن بالتاريخ) تفاسيرَ يُفهم بها القرآن (التفسير: تفسير التاريخ بالقرآن). (راجع: “الظاهرة القرآنية” لمالك بن نبي)

في كتابات أخرى يبين مالك بن نبي أن العالم الإسلامي يمتلك الحل، “الفكرة المركِّبة” التي تنتج الحضارة من تحفيز “الإنسان + التراب + الزمن” (راجع “شروط النهضة” لمالك بن نبي)… وجب إذن نفض الغبار عن هذه الفكرة بنقد “حركة الإصلاح” (جمال الدين الأفغاني)، ومعها “حركة التجديد” (طه حسين)..

وجب أيضا وضع حد ل”الأفكار الميتة والأفكار المميتة”، التراثية البالية والدخيلة القاتلة، بما هي “قابلية الاستعمار”، وبما هي تعطيل للفكرة الدينية المحفِّزة. (راجع “وجهة العالم الإسلامي/ الجزء 1″ و”الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” لمالك بن نبي)

و”القابلية للاستعمار” عنده ليست حكرا على البلاد الإسلامية وحدها، ليست خاصية من خصائصها الأصيلة. إنها ظاهرة عامة تحلّ بالجميع حسب سنن تاريخية معلومة، تحققت في الغرب نفسه قبل أن تتحقق له “الريادة” الحضارية التي شهد مالك بن نبي بعض نتائجها ومنجزاتها.. ينتقد ابن نبي هذه “الريادة” ولا ينفيها، هنا وجه الخلاف بينه وبين سيد قطب (ينفي الحضارة عن الغرب في “معالم في الطريق” و”المستقبل لهذا الدين”).

ولأن “القابلية للاستعمار” ظاهرة عامة، فقد حلت بالغرب على هامش الريادة الحضارية لأمم أخرى، كالبابليين والفارسيين ثم المسلمين فيما بعد. لم يكن اليهود ليجدوا متنفسا لأساليبهم وحركتهم المنحرفة في هذه الحضارات، فهاجروا بعيدا باحثين عن أوساط “قابلة لليهود”، “قابلة لاستعمارهم”، ليجدوها في أوروبا المتخلفة آنذاك. هناك مارسوا الربا كسلوك اقتصادي منحرف، وظهرت أصناف من اليهود: “اليهودي المثقّف، واليهودي المواطن، واليهودي الحديث، واليهودي المتزمّت، واليهودي العالمي، واليهودي الذي رمى القناع”.

تحكمت هذه الأصناف في المشهد الأوروبي، ووجهت الفعل الحضاري فيه حسب مضمونها الديني والفكري. وهناك لم يخل مجال من يد يهودية، وكان الاقتصاد أهم تلك المجالات. (راجع “وجهة العالم الإسلامي/ الجزء 2: المسألة اليهودية” لمالك بن نبي)

ومن باب دعوته إلى تخليق كافة جوانب الحياة المادية والمعنوية، يدعو إلى ربط الاقتصاد بمرجعية أخلاقية، بمرجعية فكرية ودينية تحفِّزه. “الفكرة المركبة” هي السبيل الوحيد لتحويل “المال إلى رأسمال”، ورفع الإنتاج حتى لا يقع الركود (تساوي الاستهلاك والإنتاج) أو التخلف (الاستهلاك أكبر من الإنتاج) (راجع “المسلم في عالم الاقتصاد” لمالك بن نبي).

ويراهن مالك بن نبي على الإسلام لإنقاذ العالم، إذ من شأن استئناف الحضارة الإسلامية أن يعيد الاستقرار للعالم، وينهي “النكسة” التي حلت به، والتي بدأت باستقرار جزء مهم من الشتات اليهودي في أوروبا. مشروع صاحب “شروط النهضة” يدور حول “استئناف الحضارة الإسلامية”، وحل “المسألة اليهودية” جزء منه.

إلا أن هذه المسألة أصل في تفسيره للظاهرة الاستعمارية، استغلت “القابلية الأوروبية للاستعمار” قديما، كما استغلت قابلية بلدان أخرى لافراز تشكيل استعماري حديث. بلغة أخرى أكثر تبسيطا: “الانحراف اليهودي هو سبب التشكيل الاستعماري الحديث”.. الكيان الصهيوني نموذج منه فقط.

يتكثف هذا التحليل في قول مالك بن نبي: “إن القرن العشرين هو قرن اليهود والدولار والمرأة”. هذا في نظره مشروع واحد، لا منجاة منه إلا بحضارة الإسلام، وما ينقص هذه الحضارة هو “الفكرة الدينية المركبة”.

وبهذا تتضح غاية ابن نبي من تنبيهه إلى “مشكلة الأفكار في العالم الإسلام”. إنه يبحث عن فكرة قادرة على التحفيز، يتحقق بها التركيب بين الإنسان والتراب والوقت لاستئناف حضارة خاصة، لا يرى ابن نبي حضارة نموذجية غيرها. حضارة فكرية قائمة على أساس ديني، ذلك هو السبيل الوحيد لتماسك مجتمعها واستمرارها في الزمن (انظر “ميلاد مجتمع” لمالك بن نبي).

تأثر بمالك بن نبي تلاميذ كثر في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وقد نهج نهجه في التفكير والنظر أكاديميون كثر في بلاد الجزائر. ومن أبرز تلامذته نذكر: جودت السعيد (سوريا)، عمر مسقاوي (لبنان)، الطيب برغوث (الجزائر)، محمد يتيم (المغرب)، ورشيد بن عيسى (الجزائر)، عبد اللطيف عبادة (الجزائر)، وعبد الرزاق مقري (الجزائر)، وغيرهم. لكل من هؤلاء مجال اختصاص خاص به، إلا أنهم نهلوا جميعا من صاحب “مشكلات الحضارة” بقدر ما يخدم مشاريعهم واجتهاداتهم.

2 ـ نماذج من تلاميذ مالك بن نبي

*الطيب برغوث

يُعتبر الطيب برغوث أحد أبرز المهتمين الجزائريين بفكر مالك بن نبي، وهو صاحب كتاب “محورية البعد الثقافي في استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي”. وقد استطاع د. برغوث أن يبحث عن آفاق جديدة لفكر مالك بن نبي، خاصة فيما تعلق منه بالوعي السنني في التاريخ؛ بل إنه يعتبر مشروع مالك بن نبي جزءا من “المدرسة السننية في الإسلام”.

ويكاد الطيب برغوث ينطلق من نفس إشكالية مالك بن نبي، حيث السؤال عن السبيل الكفيل بإرجاع الأمة الإسلامية إلى سكة الاستئناف الحضاري؛ وفي نفس الإطار يطرح د. برغوث إشكالية فرعية: كيف يحقق العمل الإسلامي فاعليته الحضارية المطلوبة؟ أي: كيف يستأنف فاعليته الحضارية الأولى؟ (الطيب برغوث، الواقعية الإسلامية في خط الفعالية الحضارية، مركز الراية، الطبعة الأولى، 2006) وهذه نفسها إشكالية مالك بن نبي الذي ظل يبحث في مشروعه الفكري عن إمكانات حضارية جديدة للفكرة الإسلامية المركِّبة في علاقتها بالتراب والوقت والإنسان.

لبلوغ الخضار قواعد يجب اعتمادها واستحضارها، وتلك هي سنن الإسلام الحضارية التي يدعو الطيب برغوث إلى الاهتمام بها واستثمارها وعدم استمرار الجهل بها، فنجده يقول إن هناك “خليجا واسعا وعميقا بين المسلمين والإسلام خاصة، وبينهم وبين سنن التسخير والاستخلاص عامة، حيث تغيرت صورة هذا المنهج الإلهي في أذهان كثير منهم”. (نفسه، ص 101)

*محمد يتيم

يدعو محمد يتيم في عدد من كتبه، “العمل الإسلامي والاختيار الحضاري” و”أوراق في منهج التغيير الحضاري” و”أسئلة الإصلاح الثقافي”، إلى إعطاء الأولوية ل”الامتداد الحضاري” بدل الانحسار في السياسة. فقد يتحول “الامتداد السياسي” إلى “انحسار حضاري” (نموذج الدولة العثمانية في مرحلة ضعفها)، وقد ينتج الانحسار السياسي” “امتدادا حضاريا” (إسلام المغول نموذجا). (محمد يتيم، العمل الإسلامي والاختيار الحضاري)

يتحدث يتيم عن الحضارة بمعناها المركب مما هو مادي وما هو معنوي، رافضا أن تقتصر على البعد المادي فقط. وهو اعتبار يجلي وجهة نظر مالك بن نبي من جديد، حيث تستمد الحضارة فعاليتها من فاعلية الفكر. أما المادة فصماء عمياء بكماء، ميتة إلا بتدخل روحها التي هي الفكر. ومن هنا جاء تركيز يتيم على الثقافة والفكر كمدخل إصلاحي، ومن ثم إيمانه بالرجوع إلى الفكر بعد كل انتكاسة سياسية.

ينتصب محمد يتيم مدافعا عن مثالية مالك بن نبي، ويضفي عليها سمة من التجربة المغربية، حيث السجال الفكري والسياسي مع اليسار، وحيث الحاجة إلى فكر يبرر المشاركة السياسية. فتصبح “أولوية الفكر” مثالية يواجه بها يتيم مادية اليسار، وتصبح “أولوية الامتداد الحضاري” تبريرا يواجه به موقف المقاطعة السياسية.

لقد عبر محمد يتيم عن وجهة نظره هذه في كتابه “العمل الإسلامي والاختيار الحضاري”، وأعاد تأكيدها في كتب لاحقة من قبيل “أوراق في منهج التغيير الحضاري” و”الحركة الإسلامية بين الثقافي والسياسي” و”نظرية الإصلاح الثقافي”. وتبقى فكرة يتيم ملجئا أخيرا لكل فشل سياسي، فالسياسة تجربة واجتهاد ضيق الزمن، أما الحضارة فامتداد شاسع الزمن.

3 ـ حضارة في المخيال وأخرى في “الواقع الملموس”

التبشير لا يبني حضارة، قراءة وضعانية غير مكتملة للواقع لا تحييها.. ما كان لم يعد، بقيت آثاره فقط. واقع التبعية، الاستعمار الجديد، يحتاج إلى دراسة ملموسة. الخروج منه موضوعي، خاضع لضرورة التاريخ، أما الذات ففاعلة وفق هذه الضرورة.

النقيض هو الرأسمال الأجنبي، ينهب فائض القيمة ويبتز الدول، ولا يمكن مواجهته بنفس صنيعه وقاموسه ومنطقه. وإن قراءة زائفة للواقع، لواقع التبعية، سرعان ما تتحول إلى إيديولوجيا تحول بين المسلمين وبين فهم واقعهم، وكذلك كان في تجارب عديدة.

الرهان على “عالم الأفكار” رهان مثالي، فالأفكار محدودة بحدود التاريخ وعلى أساسه تتحدد. الأفكار الدافعة لا تصمد كثيرا في واقع اجتماعي لا يطلبها، وإنها تصمد وتكتسب نجاعتها كلما وافقت شرطها التاريخي ونُسجت على مقاسه. لا بد من فهم الواقع إذن؟ ما حظ مدرسة “الحضارة” من هذا الفهم؟ حظها من ذلك يكاد ينعدم، تُقدِّم الواقع لا تعدو به المنطق الكمي الوصفي، البنيوي البسيط على أبعد تقدير.

“التراب/ الوقت/ الإنسان”، ثلاثية لا تفي بغرض التفسير الملموس والسديد، حتى عندما يستدعى “الدين” لتحفيزها. لا تجيب مدرسة “الحضارة” على سؤال: كيف يتحدد مجتمع ما؟ وما هي المحددات الحقيقية التي تفسر حركته وبناه الفوقية؟

تحاول الإجابة بخلط التراب والوقت والإنسان في إناء تجربة، ثم تضيف عليها من “الفكرة المحفزة” نزرا قليلا أو كثيرا. فما الحصيلة؟ لا تفسير، تفاسير لا تفسر شيئا، ولو جاز لنا الإنصاف ها هنا نقول: “تفاسير في حاجة إلى تفسير” بتعبير عبد السلام الموذن.

“الفكرة الموات” هي المثالية، وهي “مميتة” أيضا لما تضعه من كوابح في طريق “التحليل الملموس”. تنتِج عالما بديعا من الحياة الزائفة، أما جوهرها فإماتة ما للعقل من قدرات على تفسير العالم تفسيرا ملموسا. تمشي في عمى دليلها الأمل، أو في نور ينير النفس باطمئنان خادع. لا تجيد الفهم، فلا تحسن التفكير في المستقبل.