قراءة معرفية في خطبة “تسديد التبليغ” (7)
محمد زاوي
جاءت خطبة الجمعة 3 أكتوبر 2025، في موضوع “الحرص على تجنب الوقوع في التهلكات”، وقد دعا فيها خطباء الجمعة إلى تجنب كل ما من شأنه أن يورث ضرر الدين أو النفس أو العقل أو المال أو العرض، ومن ذلك تهلكات نبه صاحب الخطبة إلى ضرورة تجنبها من قبيل: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا ومال اليتيم، قذف المحصنات، والخيانة في الحرب أو الوطن، وكذلك اتباع الهوى، الغيبة والنميمة، وأكل أموال الناس بالباطل.
هذه تهلكات قديمة متجددة، ومن وسائل تجددها إدمان مواقع التواصل الاجتماعي وما تُسقِط فيه المرء من آفات أخلاقية كالغيبة والكذب وقول الزور وإتلاف الأوقات والأعمار وإضرار العقل وإهدار طاقة النفس، الخ.
الوسيلة حديثة، أما الآفات فقديمة. وقد حاول صاحب الخطبة مواكبة الحديث بكشف تأثيره على قِدَم الإنسان، أي على قيمه الأخلاقية والوجودية الأولى والما قبتاريخية، على براءته الأصلية..
بمرجعيته الأخلاقية والعقائدية يخوض الخطيب صراعا عالميا على الإنسان، يجعل من المنبر وسيلة لمقصدين ساميين: حفظ الإنسان بحفظ أصالته بما لها من معنى إنساني ووجودي، وحفظ الوطن بحفظ أخلاق مواطنيه وهم الأناسي (جمع إنسان) في تكوينهم (“الإنسان العالمي” بتعبير إ. فروم).
هذه جدلية بين الأنسنة والضبط، بين حفظ الإنسان ونظامه. إنها امتداد لجدلية أخرى لطالما دافعنا عنها في سياق الحديث عن علاقة الدين بالدولة، وهي حفظ الكمال بالنقص، أو حفظ الوجود بالتاريخ بتعبير آخر.
هناك صراع مع الإمبريالية على الإنسان، وهو صراع تشارك فيه أديان وفلسفات ومعتقدات ومدارس كلامية وتيارات فكرية.. إن الإسلام باستراتيجيته جزء من هذا الصراع، ويقف على ثغرين أساسيين: ثغر الإنسان، وثغر الأوطان.. وكلاهما مستهدفان إمبرياليا، بمحاولات جارية لتفكيكهما واستهداف ذاكرتهما. تستهدف الإمبريالية ذاكرة الإنسان باستهداف فطرته، فيما تستهدف ذاكرة الأوطان باستهداف تاريخها.
توظف الإمبريالية في استهدافها للأوطان والإنسان وسائل وأدوات أصبحت اليوم أكثر إثارة وأكثر استدراجا واستقطابا وتحطيما للذاكرة الوطنية والإنسانية.. مواقع التواصل الاجتماعي هي إحدى هذه الوسائل التي كرست عند الإنسان المعاصر “القابلية للاستعمار” بتعبير مالك بن نبي، قابلية للتوجيه الإمبريالي على النقيض من مصلحة الإنسان ذاته بنشر الاستهلاك الفاحش والتهتك والشذوذ الجنسي الخ، وعلى النقيض من مصلحة وطنه بشل قدراته التاريخية وتبئير (بمعنى “خلق بؤر”) تجمعاته تبئيرا زائفا لا يعكس حاجته الاجتماعية ولا حاجة وطنه التاريخية، كذا باصطناع التناقضات بينه وبين إدارة دولته..
يجب قراءة الخطبة في هذا السياق، ففيه تجد نجاعتها التاريخية والحضارية، وتُعرَف مقاصدها. المنابر منارات وأمانات، تمثيل سياسي وحضاري، تاريخي ووجداني.. منابر لمقاومة تحريف الفطرة وتفكيك محاضنها التاريخية، إنسانية الإنسان ومعها الأوطان، الوجدان ومعه الدول التي تحميه في حدود ما تسمح به الضرورة التاريخية..
لو وعى المسلمون هذه الرسالة لكانوا صالحين لدنيهم ودنياهم، لأنفسهم وأوطانهم.. وهذا من التأويلين الوجداني والوطني للإسلام، وما يجمع بينهما كثير، ويحتاج مقالا أوسع من هذا!