خديجة منصور
يمثل كتاب “المعرفة والسلطة”، صور من حياة مثقف من البادية المغربية في القرن العشرين للباحث الأنثروبولوجي ديل ف. إيكلمان، دراسة نوعية تسلط الضوء على التحولات الاجتماعية والثقافية في المغرب خلال القرن العشرين، من خلال السيرة الاجتماعية للحاج عبد الرحمن المنصوري، قاضي مدينة أبي الجعد، يقدم الكتاب رؤية متعمقة لدور المثقف القروي في بناء الوعي الثقافي والاجتماعي في بيئة تجمع بين التقليد والحداثة، ورغم تركيزه على شخصية المنصوري، يتجاوز الكتاب حدود السيرة الذاتية ليقدم تحليلا للسياق العام الذي عاصرته هذه الشخصية، في ظل تغيرات سياسية واجتماعية كبرى.
يرتكز العمل على تفكيك الصور النمطية المرتبطة بنظام التعليم العتيق في المغرب، والذي غالبا ما وصف بأنه نظام تقليدي يعتمد على الحفظ والتلقين، يؤكد إيكلمان أن هذا النظام كان ديناميكيا، ويمثل أرضية خصبة لإنتاج مثقفين قادرين على التفكير النقدي ومواجهة تحديات واقعهم. ويبرز المؤلف كيف ساهم التعليم العتيق في التكوين العلمي والاجتماعي لشخصيات بارزة استطاعت المزج بين الأصالة والانفتاح على التغيير، مستشهدا بمثال الحاج عبد الرحمن المنصوري الذي جمع بين دوره كقاض ومثقف متفاعل مع محيطه المحلي.
يشير الكتاب إلى أن التعليم العتيق لم يكن مجرد نظام جامد، بل تطور مع الزمن ليواكب التغيرات المجتمعية. خلال القرن التاسع عشر، شهد هذا النظام إصلاحات مهمة شملت إدراج مواد علمية مثل الحساب والفلك والهندسة في المناهج الدراسية، كما عززت هذه الإصلاحات دور العلماء في دعم شرعية الدولة المغربية واستمرارها، من خلال تكوين نخبة مثقفة تمثل الجسر بين الموروث الثقافي والتحديات المستجدة، ويظهر هذا من خلال أمثلة حية لمدارس قروية، مثل مدرسة بدوار “المشابيك”، التي ساهمت في تكوين جيل من المثقفين القادرين على التأثير في مجتمعاتهم.
يعتمد إيكلمان في تحليله على مفهوم “المثقف العضوي” كما صاغه أنطونيو غرامشي، ليبرز الدور المحوري للمثقفين القرويين في بناء مجتمع متماسك، يرى المؤلف أن هؤلاء المثقفين لم يكونوا مجرد شخصيات منعزلة عن محيطهم، بل كانوا فاعلين في الربط بين الجماعات المحلية والسلطة المركزية، فضلا عن مساهمتهم في الحفاظ على هوية المجتمع وقيمه في ظل التحولات. كما أن ارتباطهم الوثيق بمحيطهم القروي منحهم خصوصية في التفكير والتأثير، وهو ما جعلهم نموذجا للمثقف الملتزم بقضايا مجتمعه بعيدا عن النمطية المركزية التي تميز مثقفي المدن الكبرى.
من خلال تحليل يوميات المنصوري وكتاباته، يبرز إيكلمان أهمية السياق الأسري في بناء شخصية المثقف، فقد كانت البيئة العائلية الداعمة عنصرا حاسما في مسار المثقفين القرويين، الذين غالبا ما نشؤوا في بيوت علمية احتضنت التعليم التقليدي وشجعت على طلب المعرفة. يسوق المؤلف مثالا من مؤلف المعسول للمختار السوسي، الذي يوثق سير العلماء المغاربة ونشأتهم في أسر جعلت التعليم محوراً أساسياً في حياتها.
يتميز الكتاب بمنهجيته الاستقرائية، حيث يعتمد على تتبع سيرة الحاج عبد الرحمن المنصوري ليس فقط لفهم مسار حياة فردية، بل لفهم ديناميات أوسع تتعلق بعلاقة المعرفة بالسلطة في المجتمع المغربي، ومن خلال دراسة حالة المنصوري، يكشف المؤلف عن دور المثقف القروي في تحقيق توازن بين متطلبات التقليد وحتميات التغيير، متجاوزا القوالب الجاهزة التي غالبا ما تختزل أدوار هؤلاء المثقفين.
ويقدم إيكلمان في كتابه قراءة معمقة لدور التعليم العتيق في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي في المغرب. ويؤكد أن هذا النظام كان عنصرا حيويا في إنتاج مثقفين عضويين استطاعوا الجمع بين الحفاظ على الأصالة والانفتاح على معطيات العصر.
وبهذا، يشكل الكتاب إضافة نوعية إلى الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، إذ يفتح آفاقا جديدة لفهم التحولات الفكرية والاجتماعية التي عرفها المغرب من منظور يوازن بين الفردي والجماعي، وبين التقليدي والحداثي.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22543