حسين زين الدين
يعتقد الشاعر والناقد العربي أدونيس «أن النقد كالفكر، أو هو فكر لا يتغذى ولا ينمو إلا بالتساؤل المستمر»، من هنا تعتبر ثقافة التساؤل وممارستها على أكثر من صعيد، عملية تفتح على الإنسان آفاقا معرفية ومفاهيم جديدة، وأداة تجعله يفكر ويتحرك في إطار جديد من المباني والقيم والمفاهيم.
ولكي يتحقق ذلك يجب أن يعرف كيف يمتلك ثقافة التساؤل، فقد تتبادر إلى ذهنه – في الوهلة الأولى – العديد من التساؤلات والاستفسارات، تتنوع بتنوع موضوعاتها وعناوينها، وتتباين بحسب اتجاهاتها وأنواعها ومساراتها، قد يكون بعضها متعارضا مع ما يعتقده من المسلمات واليقينيات بمزيد من التساؤل والنقد والتقويم، في عصر يتموّج بالمتناقضات، والأخرى قد تكون حبيسة الذات خوفا من الاتهام والتصادم حين الإفصاح عنها أو مناقشتها، لكنها تبقى في صراع دائم بين ما يحمله من
ثقافة موروثة تقيد العقل وتحجب الحقائق، وبين ثقافة تدعوه إلى إثارة العقل وتحريك كوامنه لينطلق نحو الآفاق.
يقول الأستاذ محمد المحفوظ في مقالته « سؤال الإبداع والنقد في الفكر الإسلامي»: « لاشك بأن السؤال، ومواجهة بديهيات الحياة الاجتماعية بالنقد والمساءلة، هما جزء من منظومة استخدام العقل. وبهذا المعنى يكون «السؤال بالمعنى العام والحضاري» هو عصب الحياة والأفكار. فلا حياة بلا تساؤل، كما أنه لا أفكار ناضجة وحيوية بدون نقد وتقويم وتطوير».
ويشير في ذات الصدد الشاعر أدونيس « إن القوة التي تميز الإنسان نوعيا هي طرح الأسئلة… فالثقافة الحقيقية تكمن في القدرة على التساؤل لا في الاستسلام للأجوبة الجاهزة ».
فالسؤال هو المحفز الأول في عملية توليد الأفكار وتطوير الرؤى الحقيقية، والسبيل لرفع الأوهام والشكوك والحُجُب عن عقل الإنسان.
ومن الطبيعي القول: إن حياة الإنسان الحقيقية مرهونة بقدرته على استعمال عقله، وأي منع أو إلغاء لفاعلية عقل الإنسان ومنعه عن التساؤل، هو انتزاع لإنسانيته ووجوده.
لذا نحن بحاجة إلى تعزيز ثقافة التساؤل في مجتمعاتنا من أجل الرقي بالوعي الإنساني الحضاري، لنعيش العصر بكل تجلياتها.
وحين نقرأ كتابا ككتاب «الدين العلماني» للمفكر الإصلاحي الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش الذي يعتبر من رواد النهضة الفكرية وعلم من أعلام المشروع الحضاري، تختلجنا العديد من التساؤلات على سبيل: هل العلمانية ضد الدين؟ وهل الإسلام دين علماني؟ ما الدين العلماني؟ وهل العلمانية هي الحل في معالجة إشكاليات المجتمعات الحديثة؟ وما دور الدين في المجتمع العلماني؟ ولنا أن نطرح علامة استفهام حول الاعتراض على الليبرالية هذا المذهب الفلسفي الذي يقوم على أساس التعددية وعدم احتكار الحقيقة ونفخ روح الجرأة والشجاعة في عقل الإنسان وتحريره وعدم إلغاء عقيدته ويؤمن بحرية الاختيار إلى ما ذلك من مبادئ ومفاهيم تتوافق مع منظومة المبادئ والمفاهيم الإسلامية؟ وأن الأحكام من قبيل نجاسة الكفار، الارتداد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الاجهاد الابتدائي، ألا تدل هذه الأحكام على نوع من الخشونة والعنف؟
هذه جملة من أبرز التساؤلات والأفكار التي تتعلق بأمور الدين والسياسة والمجتمع المدني الديمقراطي، والجدير بالذكر إنني إذ أعرض للعناصر الأساسية لهذا الكتاب لا يعني بأي حال من الأحوال انسجامي مع كل أفكار الكتاب، فهي أفكار قابلة للمراجعة والحوار والنقاش، وقد يكون هذا النص هو محاولة أولية لنقاش أفكار هذا الكتاب.
فقد تناول الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه «الدين العلماني» في مقالته الأولى مسألة الدين والمجتمع محاولا بيان ماهية العلاقة بين الدين والمجتمع المدني من خلال بيان معالم المجتمع المدني وفرقه عن المجتمع البدوي.
وفي مقالته الثانية تتطرق إلى مسألة المباني النظرية لليبرالية: ماهية الفكر الليبرالي وهويته وأبعاده ومبانيه، مستعرضا لمحات سريعة من تاريخ الليبرالية وبيان أصول هذا المذهب الفلسفي الذي يقوم على أساس التعددية وعدم احتكار الحقيقة ونفخ روح الجرأة والشجاعة في عقل الإنسان ليطرح علامات استفهام
وتحدث في المقالة الثالثة عن مسألة الفقه في الميزان وفيها يطرح تساؤلات هامة أمام الفقه الإسلامي ومبتنياته الفكرية والتراثية، والتأكيد على ضرورة بلورة الأحكام الفقهية الجديدة من خلال رؤية نقدية جديدة.
فيما تحدث في مقالته الرابعة عن النسبة بين العدالة والقانون من خلال التساؤل عن مصدر القانون ومن له الحق في تحديد الإنسان وصياغة القانون الذي يتكفل استيفاء الحقوق مع المحافظة عل أصل العدالة.
أما في مقالته الخامسة يتحرك الدكتور سروش للبحث في مقولة الدين العلماني الذي يرفع لواءه بعض التيارات الإسلامية التي تنطلق في رؤيتها الدينية في موقع إيديولوجي، وترى أن الدين ثد جاء لأعمار الدنيا وإقامة العدل والقسط في أرجاء المعمورة وأن يتحرك الإنسان في هذه الحياة على مستوى إصلاح الحياة الدنيا بدوافع دينية.
وأخيرا نقرأ في مقالته السادسة دراسة عميقة عن كيفية الجمع بين الدين والديمقراطية في الحكومة الدينية، فبما أن هذا المعيار في جميع الحكومات الدينية والوضعية هو العدالة، وهذا المعيار يؤخذ من خارج الدين، أي من العقل العلمي، أمكن الجمع بين الديمقراطية والدين على هذا الأساس، وهذا لا يعني إلغاء دور الشريعة في ترشيد مسار المجتمع المدني والديني.
الدين والمجتمع المدني
ينطلق الدكتور عبد الكريم سروش في مقالته الأولى من موقع بيان ماهية العلاقة بين الدين والمجتمع المدني من خلال بيان معالم المجتمع المدني وفرقه عن المجتمع البدوي، وفي هذا يلفت سروش نظرنا إلى حالة التعري والانفراد التي صاحبت الإنسان في المجتمع البدوي ودور الدين والقانون المدني في إخراج الإنسان من حالة التعري الطبيعي وستره بلباس الأخلاق والمدنية، ويعيش النظم والقوانين التي تتناسب مع الحق والعدل إلى جانب الحرية والديمقراطية، وضرورة إشراف الشعب على تصرفات السلطة وإشراكه في صنع القانون والنظام السياسي في حركة الواقع الاجتماعي. وهذا هو معنى التمدّن والتحضر.
المباني النظرية لليبرالية
يتحدث الدكتور سروش في مقالته الثانية عن الليبرالية: ماهية الفكر الليبرالي وهويته وأبعاده ومبانيه، ويخلص أن الليبرالية ظهرت في ثلاثة محاور على الأقل: المحور السياسي، المحور الاقتصادي، المحور الفكري والنظري، وأهم شعار طرحته الليبرالية على مستوى الاقتصاد هي ضرورة إلغاء مضايقات الدولة في مجال التجارة والاقتصاد ولزوم تامين الحرية والأمان لرؤوس الأموال والقوانين والمقررات التي تساعد التاجر على التصرف بحرية في عمله ونشاطه التجاري. من هنا يمكن القول أن الليبرالية ظهرت في البداية في ميدان التجار والاقتصاد، ثم بعد ذلك تفرع من هذه الظاهرة التفكير الفلسفي والنظري لليبرالية، أي متطلبات العصر وزيادة السكان وتعاظم الثروة التي استدعت التفكير بصور جدية حول التنظير لهذا المحور الاقتصادي.
«العدالة الاجتماعية في نظر الليبرالية حالة عفوية تتولد بصورة طبيعية من خلال التفاعل الاجتماعي والاقتصادي بين الأفراد لا أمر يفرض على الناس من الأعلى. العدالة التي تفرض من الأعلى لاتهتم بالحقوق، بينما العدالة المتولدة تلقائيا في المجتمع تأخذ بنظر الاعتبار استحقاق الأفراد». ص 75
بعد أن يستعرض الدكتور سروش لمحات سريعة من تاريخ الليبرالية، ينطلق في مقالته هذه من بيان أصول هذه المذهب الفلسفي الذي يقوم على أساس التعددية وعدم احتكار الحقيقية ونفخ روح الجرأة والشجاعة في عقل الإنسان، ليطرح علامات استفهام أمام مسلمات الدين وبداهات العقيدة والأخلاق والسياسة.
إن أبرز وأهم شعار لليبرالية شعار «لتكن جريئا في التعلم والمعرفة»، فكل ما يدور حول مفهوم الليبرالية من هذا الشعار « في الحقيقة أن مايقال عن العقلانية المفرطة، أي إهمال العواطف والتحرك باتجاه العقل والعقلانية وهو الشيء الذي أفرز المذهب الرومانطيقي بعد ذلك كرد فعل للتأكيد على العقلانية والليبرالية، وكذلك تنكر للوحي والدين وإلغاء دور رجال الدين والمؤسسة الدينية ونفي المقدسات الدينية والحقوق الإلهية وأمثال ذلك كلها تتولد من رحم هذا الشعار «لتكن جرئيا في طلب المعرفة» » ص58.
يشير الدكتور سروش ص64 إلى أن مفهوم الليبرالية يعني أن كل شيء وكل شخص ليس مقدسا إطلاقا وعلى الناس أن يتحرروا من شر المقدسات فلا ينبغي الاعتقاد بشخصية أو عقيدة معينة من خلال عنصر التقديس والتجليل فقط، فنحن بعد هذا اليوم من أهل التحليل لا من أهل التجليل، وأما العقلانية فهي وليدة الليبرالية، ومن هنا يبرز دور العقل في حياة الإنسان من خلال مهمة في التحليل والنقد لا في التجليل والتقديس. هذا في البعد المعرفي لليبرالية.
أما في البعد الإنساني والانثروبولوجي في هذا الفكر، فأن محور الفكر الليبرالي يؤكد على حقوق الإنسان، وترى أن العقيدة لا تمثل ركنا في إنسانية الإنسان، فكل الناس سواسية أمام القانون، ولايحق لمذهب معين محاكمة الناس وإصدار عقوبات في حقهم بسبب الاعتقاد ببعض الأفكار أو اختيار عقيدة معينة « موقف الليبرالية من إنسانية الإنسان يتجلى في دائرة واسعة جدا، فلا أحد من أفراد البشر يسقط من الإنسانية بسبب العقيدة أو يكون مستحقا للقتل وسلب الحقوق لهذا السبب، إلا أن تقوم المحكمة القانونية بإصدار حكم الإعدام في حق أحد الأفراد لا من أجل العقيدة بل من أجل بعض الأعمال الإجرامية». ص 66
وعلى المستوى السياسي فالديمقراطية تمثل الواجهة السياسية للفكر الليبرالي وتقليص دور السلطة ودعوة الناس للمشاركة الجدية في اختيار الحاكم وتشكيل البرلمان « الليبرالية ترى بان جميع أفراد البشر لهم حق الحكومة والسلطة بدرجة واحدة وليس لأحد هذا الحق في مرحلة سابقة ».
من هنا يرى الدكتور سروش أن الدعوة إلى الحرية والديمقراطية ومشاركة الناس في اختيار الحاكم وتشكيل البرلمان والمساهمة في إبداء الرأي وعدم إلغاء أي عقيدة بصورة مطلقة ركائز أساسية لليبرالية.
الفقه في الميزان
يطرح الدكتور سروش تساؤلات هامة أمام الفقه الإسلامي ومبتنياته الفكرية والتراثية. ويؤكد في مقالته الثالثة على ضرورة بلورة الأحكام الفقهية الجديدة من خلال رؤية نقدية جديدة لاضفاء واقعية أكثر عليها لتحقيق الانسجام الفاعل بين متطلبات الدين ومقتضيات العصر.
المقالة جاءت جوابا على مقالة للشيخ المنتظري يؤكد فيها هذا الأخير على قابلية الفقه التقليدي السائد في الحوزات العلمية للتواصل مع الحياة العصرية والاستجابة لاحتياجات الإنسان في مواجهة تحديات الواقع الجديد، بينما يرى الدكتور سروش أن لا فائدة في الالتزام بالفقه لعقلنة القواعد الفقهية اعتقادا منه إننا نعيش في عالم تبدل المفاهيم وانقلاب المعايير والتغيير المتسارع في منظومة القيم والأعراف الاجتماعية مما جعل من الفقه التقليدي يقف عاجزا عن معالجة المساحات التي أفرزتها الحضارة الجديدة في حركة الحياة والواقع.
النسبة بين العدالة والقانون
تحدث الدكتور سروش في مقالته الرابعة عن النسبة بين العدالة والقانون من خلال التساؤل عن مصدر القانون ومن له الحق في تحديد الإنسان وصياغة القانون الذي يتكفل استيفاء الحقوق مع المحافظة عل أصل العدالة.
هنا يطرح سروش عدة نظريات في هذا الخصوص وينتهي إلى القول بأن مشروعية القانون لا بد أن تكون مستوحاة من رضا العامة وعلى أساس العقد الاجتماعي لا على أساس مشروعية القوة ولا على أساس الحق الإلهي لفئة رجال الدين ولا على أساس محورية المصلحة النوعية.
الدين العلماني
يتحرك الدكتور سروش في مقالته الخامسة للبحث في مقولة الدين العلماني الذي يرفع لواءه بعض التيارات الإسلامية التي تنطلق في رؤيتها الدينية في موقع إيديولوجي، وترى أن الدين قد جاء لأعمار الدنيا وإقامة العدل والقسط في أرجاء المعمورة وأن يتحرك الإنسان في هذه الحياة على مستوى إصلاح الحياة الدنيا بدوافع دينية، إلا أن سروش يذهب في الغرض من الدين مذهب العرفاء حيث يمثلون نسبة الدنيا إلى الآخرة كنسبة الجنين في بطن أمه إلى العالم الخارجي.
فكذلك يعيش الإنسان في هذه الحياة بالنسبة إلى العالم الآخرة، فالآخرة محيطة بنا إلا أننا في غفلة عنها ومحجوبون بحجاب الطبيعة، وبذلك تكون الآخرة هي الأصل بينما الرؤية الإيديولوجية ترى في الدنيا أنها الأصل.
المديرية والمداراة
نقرأ في مقالته السادسة دراسة عميقة عن كيفية الجمع بين الدين والديمقراطية في الحكومة الدينية، فبما أن هذا المعيار في جميع الحكومات الدينية والوضعية هو العدالة، وهذا المعيار يؤخذ من خارج الدين، أي من العقل العلمي، أمكن الجمع بين الديمقراطية والدين على هذا الأساس، ولكن وجود بعض الأحكام الفقهية من قبيل نجاسة الكفار وقتل المرتد ونظرية ولاية الفقيه وأمثال ذلك ربما يشكل مانعا جديا أمام تحقيق الديمقراطية في المجتمع الديني، إلا أن ذلك لا يمثل سوى قراءة ناقصة للدين والواقع وتوهم تطابق الديمقراطية مع الليبرالية، فمن جهة لا يعني التسامح والمداراة في مقولة الليبرالية ترك الدين والتحرر من الالتزام الديني، ومن جهة أخرى فإن الحكم بقتال المشركين إنما يتعلق بمرحلة التأسيس لا الاستقرار «أي يمثل قضية خارجية لا قضية داخلية كما في الاصطلاح المنطقي»، وهذا لا يعني إلغاء دور الشريعة في ترشيد مسار المجتمع المدني والديني، فالشريعة يمكنها المساهمة في تقوية دعائم النظام الديمقراطي من خلال حفظ هوية المجتمع الديني وإشاعة روح الانضباط القانوني على مستوى الحاكم وسائر أفراد المجتمع وتقوية مفهوم المساواة امام القانون وترسيخ قيم الأخلاق في البنية الثقافية للمجتمع الديني.
أراد الدكتور سروش من مناقشته لتلك الإشكاليات في كتابه تحريك العقل الإسلامي وممارسة عملية غربلة وتنقية للتراث الديني من شوائب الماضي ومعالجة الإشكاليات التي يواجهها الإنسان المسلم من موقع الانفتاح على العقلانية الجديدة في جميع حقول المعرفة لاسيما العقل السياسي، ومن خلال الانطلاق من رؤية اجتهادية للتراث الفكري والإسلامي، تتسم بالعمق والجرأة على اقتحام المتاريس المذهبية والوعي المنفتح على متطلبات العصر.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى منهجية ورؤية واضحة ترسم للإنسان طريق الحياة الكريمة من خلال الجمع بين الدين والعقلانية، فلا يترك الدين ويرتمي في أحضان العلمانية، ولا يترك العقلانية فيعش التخلف والأصولية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7427