خديجة منصور
تستدعي عملية بناء الدولة الحديثة، وإعادة تشكيل هياكلها الوقوف على الخلل أو العطب الذي حال دون إتمام هذا البناء. ومما لا شك فيه أن أي عملية بناء تحتاج قاعدة أساسية متينة وعقلا يخطط ويرسم “المهندس” خطوة بخطوة دون الخروج على الشكل المنظم المأمول.
وقد يحتاج المهندس إلى ترميم البناء أو هدمه، ففي العملية الأولى لا بد من الحفاظ على الدعامات وجمالية الصورة، أي إدخال تعديلات جديدة بمعنى آخر “الأصالة والمعاصرة” وفي الثانية “الهدم” ينبغي تهيئ شروط معينة أكثر جرأة من أجل اكتمال العملية، فهل نحن نحتاج اليوم أكثر من الأمس إلى عملية الترميم أو هدم؟!
ولتفكيك شفرة هاتين العمليتين لابد من وجود آليات أكثر جرأة، لا تتحقق إلا بثورة ثقافية وصحوة معرفية، يسبقها خطاب فكري نهضوي لمعالجة هذه الإشكاليات ولإعادة إحياء هذا الجمود الذي كسح العقل العربي.
ذلك ما سنراه مع الدكتور “مراد زوين” أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة الحسن الثاني، ومنسق ماستر فلسفة القانون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، الذي له عدة مؤلفات ومحاضرات مرتبطة بإشكاليات الفكر السياسي العربي المعاصر.
وكان لاختيار الدكتور “مراد زوين” عنوان مؤلفه الجديد : “التحديث وأزمة العقل السياسي العربي”، جوابا على الضرورة الآنية والمطلب المجتمعي المتمثل في مشروع “تحديث المجتمع” مركزيا بهدف خلق ثورة ثقافية مواكبة لإصلاح التعليم وترسيخ قيم ومبادئ الديمقراطية والحرية.
كما يمثل الكتاب إضافة نوعية وهامة لدراسة الفكر السياسي المعاصر، وهو السبب الموضوعي في اختيار هذا الكتاب، حيث يرى الدكتور “المختار بنعبدلاوي” في تقديمه للكتاب أنه انكب على تفكيك الاتجاهات الكبرى التي تقاطعت فيها مسارات الخطاب النهضوي، وانصب على تحليل القضايا الكبرى التي فرضت نفسها على العقل العربي “منذ لحظة الاصطدام بالتدخل الاستعماري الغربي، إلى حدود ارتسام مخرجات الربيع العربي”.
وحدد مقدم الكتاب الأفكار الأساسية التي طرحها الكاتب “زوين” واضعا إياها في مسارها التاريخاني بدء من السلفية في المغرب وحالة النكوص التي عرفتها، مرورا إلى الحركات الإسلامية المعاصرة ( السيد قطب، أحمد الريسوني،….)، وصولا الى الحصيلة الفكرية لكل من الأستاذين علي أومليل وعزيز العظمة.
لقد استعرض الدكتور زوين من خلال مؤلفه المذكور ثلاثة فصول أساسية:
الفصل الأول: ”الدين والسياسة ومرجعية الخطاب ”
شدد من خلاله على أهمية تاريخ الأفكار الذي ينقل لنا سيرورة الأحداث والوقائع والمراحل التي واكبت تطور الفكر العربي المعاصر بدء من القرن 19 إلى اليوم، محددا بذلك السلطة المرجعية لكل مرحلة من المراحل، حيث اعتمد هذا الفكر على المرجعية الغربية التي أنتجتها فلسفة الأنوار خلال القرن 18، والتي أثرت في تحديد مفاهيم وإشكاليات خاصة بالفكر العربي، بحيث إن هذا الأخير لم يهتم بالشروط التي أدت إلى تأسيس الدولة الحديثة في الغرب ( الإصلاح الديني، الاكتشافات العلمية، تطور الفكر العقلاني …)، بل اهتم بالآليات التي تؤسس عليها الدولة الحديثة كالحرية، الديمقراطية، فصل السلط .
ليتنقل الكاتب للحديث عن إشكالية عقيدة الإصلاح العربي لدى مفكري النهضة، كما عودنا الدكتور “زوين” على إلزامية تحديد المسار الزمني الأهم للمراحل التاريخية بداية من تفكك دولة الخلافة ( الدولة العثمانية ) إلى مرحلة المد الاستعماري الغربي ودخول نابليون إلى مصر، وصولا إلى مرحلة محمد علي وما واكبها من إصلاحات سياسية واقتصادية وثقافية.
كما أوضح الكاتب في الفصل نفسه النموذج التركي من خلال الثورة الكمالية وتأثيرها على العالم العربي الإسلامي وكيف اختفت معالم دولة الخلافة التي كانت تمثلها الدولة العثمانية، وكيف أسس أتاتورك معالم دولة حديثة، وما واكبها من ظهور مصطلحات جديدة كالاستقلال، الثورة، القطرية، الوطنية، القومية.
وعند حديثه عن الإصلاحات في مصر يعرض لنا محاولات طه حسين وسلامة موسى لوضع برامج إصلاحية قصد الإنعتاق من الثقافة الماضوية.
أما سياسيا، فقد حاول الكاتب تأطير مرحلة تأسيس الدولة الوطنية القطرية في مصر سنة 1952م بزعامة جمال عبد الناصر، مشيرا إلى تأثيرها على الفكر والثقافة العربيين مع تحديد الأسباب التي أدت إلى فشلها مباشرة مع بروز بوادر النظام العالمي الجديد.
ولم يحصر الكاتب مقاربته في الجانب التاريخي والإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي واكبت كل مرحلة من المراحل، بل كان للموروث الديني حصة من الكتاب من خلال عنوان “مقاصد الشريعة بين التقليد والتجديد “، بسط عبرها موضوع السلفية في المغرب ممثلة في علال الفاسي الذي لا يعتبرها حركة فكرية ودينية فقط، بل إصلاح شامل ومقاومة للجمود في كل فروع الحياة .
وقد عقد الكاتب مقارنة بين الروح التجديدية عند علال الفاسي المتشبع بفكرة النهضة والفكر السلفي التجديدي، والتقليد الذي ظل حبيسا بشخص “الريسوني”، فالاجتهاد كما اعتبره هو لا يجب أن يخرج عن نطاق الدين وأحكامه .
وقد استرسل الكاتب في نفس الفصل عددا من العناوين الفرعية تطرقت سابقا لبعضها كالسيادة والسلطة في الإسلام والتي وضعها علال الفاسي في قسمين الأولى أصلية لله والثانية للشعب، أما عن مفهوم الأمة والدولة يقول الكاتب إن علال الفاسي لا يفرق بين الأمة والدولة إلا من حيث التعميم واللفظ، فالأمة أعم من الدولة، أي أن علال الفاسي انطلق من الخاص إلى العام أي من الوطن إلى الأمة، إذ كان همه الأساس هو الوطن قبل مشروع الأمة.
وكي يحدد الكاتب العلاقة من خلال مشروع الحركات الإسلامية بين الدعوة والسياسة، قدم نموذجا للفترة التي عاصرها سبينوزا خلال القرن 19 ” المليئة بالجدل حول اللاهوت، بين مختلف الطوائف المسيحية، يقول سبينوزا ” كل إنسان حر في أن يؤمن بما يشاء” منتقدا بذلك الخطاب اللاهوتي.
ثم أردف الكاتب تحليله لعدة نماذج بهدف الفصل بين الدعوي والسياسي منها نماذج جماعة العدل والإحسان والعدالة والتنمية وراشد الغنوشي الذي اعتبر أن العلاقة بين الدين والدولة هي في عمقها صراع.
ليختم الكاتب الفصل الأول بعنوان الدولة الإسلامية ووهم الخلافة، محددا ماهية الدولة الإسلامية والكيفية التي تشكل بها الإسلام السياسي من وجهة نظره “الإسلام /الجاهلية، الولاء/ البراء،الحاكمية/ السيادة، دولة الخلافة/ دولة الطاغوت.
الفصل الثاني: ” الإصلاح والثورة الثقافية ”
يرى الكاتب مفهوم الإصلاح باعتباره من المفاهيم المركزية والتي لم يتجاوزها الفكر العربي المعاصر منذ بداية القرن 19، وارتبط هذا المفهوم بجميع المجالات بدء من الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى الديني، وارتأى الكاتب في هذا الصدد اعتماد كتاب “أفكار مهاجرة” للأستاذ علي أومليل محددا من خلاله نموذجي الصين واليابان مقارنة بمفهوم الإصلاح في الدول الشرقية وسؤال الثقافة عند العرب.
وترابطا بالموضوع الأول يوضح الكاتب الآليات التي تربط بين السلطة العلمية والسياسية، وان الهدف الاسمى تفكيك العلاقة بين سلطة الديني والسياسي.
وقد أشار الكاتب في عنوان فرعي : “التعليم بين الإصلاح والثورة الثقافية ” معتبرا أن مجال التعليم يستدعي منا التفكير والدراسة مستحضرا كتاب لحسن أوريد ” من أجل ثورة ثقافية في المغرب”، فالنهضة بالنسبة لأوريد يقول لا تستقيم دون إعطاء الأولوية إلى مجال التربية والتعليم، وربط إصلاح التعليم بوجود مشروع مجتمعي أو طموح جماعي ولا يكتمل هذا المشروع إلا بربط المدرسة بمجتمع حديث وعصري .
الفصل الثالث: “العرب والتحديث”
تطرق الكاتب في المحور الأول من هذا الفصل للحديث عن التحديث ونشأة الحركة القومية في مصر أثناء حكم محمد علي وإبراهيم باشا وما واكب هاته الفترات من إصلاحات في مجالات عدة خصوصا المجال الثقافي، مع ظهور حركات فكرية معاصرة .
لينتقل بعد ذلك للحديث عن جدلية الثقافي والسياسي في عملية التحديث في البلدان المغاربية من خلال اعتماد الكاتب على مؤلف الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، والذي يعتبر استمرارا لعملية الإصلاح التي شهدتها كل من تركيا ومصر، وركز الكاتب “زوين” على ثلاث نماذج : تونس والمغرب والجزائر، ثم أشار إلى أن عملية الإصلاح بدأت بانتشار الصحف والمجلات في العالم العربي والإسلامي وكيف تأثرت تونس بالأفكار التحديثية الغربية، إلى أن يتكلم عن تأسيس دستور تونس 1861 والذي يعد أول دستور في العالم العربي الإسلامي.
وفي المحور الثاني: “المغرب ودواعي الإصلاح” ناقش فيه الكاتب عملية الإصلاح في المغرب خصوصا في عهد السلطان المولى عبد الرحمن والمولى الحسن الأول وما واكبها من إصلاح للهياكل الاقتصادية والليبرالية كما جاء في دراسة خالد بن الصغير الذي أشار له الكاتب في هذا الصدد.
أما في ما يخص المحور الثالث الجزائر بين الأمة والتجنيس: يقول الكاتب كان هم الإصلاحيين الجزائريين هو الحفاظ على عروبة بلدهم والتأكيد على الوجود التاريخي للجزائر.
يعود الكاتب في محور آخر للحديث عن الفكرة المغاربية لدى زعماء الحركة الوطنية، ولم يستثن أي جانب سواء الديني أو الاقتصادي أو الثقافي من خلال التبادل الطلابي وحتى المجال الإعلامي، مما سيؤسس آنذاك لفكرة وحدة المغرب العربي.
وأضاف الكاتب أن الفكرة المغاربية كانت حاضرة لدى الحركة الوطنية المغربية، وهنا يقف مرة أخرى عند علال الفاسي من خلال مؤتمر المغرب العربي بالقاهرة سنة 1947، الذي تجسد فيه العمل الوحدوي والهدف المغاربي وما ترتب عنه من إحداث مكتب المغرب العربي بالقاهرة .
أما في المحور ما قبل الأخير: “العرب والعلمانية كآلية للتحديث” أبرز الكاتب من خلاله أهمية فصل الدين عن الدولة ودوره في إنجاح عملية التحديث السياسي، ولتحقيق مكاسب وآليات بناء الدولة المدنية، وفي هذا الصدد استحضر مرة أخرى فكر عزيز العظمة عن العلمانية من منظور تاريخي واجتماعي وفكري دارسا إياها كما يقول الكاتب من داخل العالم العربي داحضا فكرة حصر مفهوم العلمانية في علاقة الدين بالدولة، فهي تحتاج لتحولات تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية وفكرية وايديولوجية. إذ يرى العظمة أن الإسلام كدين لا يقوم دون مؤسسة دينية، وأن كل الأديان لا تخلوا من سلطة كهنوتية دينية.
وحسب الكاتب فإن انعكاسات الحداثة الأوروبية على العالم العربي جاءت ملازمة لنهاية التطور التاريخي الحديث لأوروبا، أي أن العلمانية ملازمة للحداثة، ولم تقتصر على أوروبا بل صار لها بعد كوني حسب منظور العظمة.
وقد استعرض الكاتب ثلاثة إصلاحات مهمة ارتبطت بالأحداث التاريخية سواء من إصلاح التعليم والذي يعد من بين الأهداف المهمة للدولة الحديثة عن طريق “تغيير مناهج التعليم لسد حاجيات الجيش والبيروقراطية من جنود وموظفين أكفاء “، حسب العروي.
أما قانونيا، فقد أثرت الثورة الكمالية والتحولات الاجتماعية على الجانب القانوني بإنشاء جهاز قضائي خارج عن السلطة وعن علم الهيئة الدينية حسب العظمة.
وفي المحور الأخير من المؤلف: “الكاتب والناصح السياسي في الحضارتين الإسلامية والمسيحية “، استند الكاتب في تحليل هذا المحور إلى كتاب “النصيحة السياسية ” للأستاذ عز الدين العلام، وهو من الدراسات النادرة في الثقافة العربية الإسلامية، التي تقارن بين آداب الملوك في الحضارة الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية، معتبرا ذلك قراءة نقدية ودقيقة لنصوص إسلامية ومسيحية.
وبهذا قد استند الكاتب في سرده على تتبع تطور تاريخ الأفكار السياسية وما واكبها من تحولات سياسية و اقتصادية و اجتماعية وفكرية ،مستوفيا للمعلومات الكافية والمفاهيم والنظريات.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20666
عبد الواحدمنذ سنة واحدة
مقالة راءعة ومفيدة ماشاء الله تبارك الله صديقتي الأستاذة الفاضلة خديجة.
أحمد الجابريمنذ سنة واحدة
مقدمة جميلة وملخص دقيق وذكي ينمان عن تمكن صاحبتهما من الفكر العربي والفلسفة ويغريان باقتناء وقراءة هذا الكتاب القيم.
مزيدا من التألق أستاذة خديجة