ذ. محمد جناي
الصداقة هي جسر المحبة بين القلوب، وهي البلسم الشافي الذي يربت على وجع القلب فيزول،وهي العطر الذي يفوح في الأرجاء فيملأ القلب بالفرح ويملأ الروح بالمحبة ، وهي إحدى مفاتيح السعادة التي تجعل الروح تحلق في الأرجاء لتطوف بين الأصدقاء فتقرب بينهم أكثر فأكثر ، لذلك فالصداقة لا تقدر بثمن ، بشرط أن تكون مبنية على نية خالصة لله تعالى ، وأن تجتمع فيها القلوب على حب الخير والإيثار ، وأن تكون الصداقة حقيقية ليس فيها مصلحة أو هدف، بل أن تكون لجمع القلوب ومد الجسور الألفة والمحبة بينها.
الإنسان ومنذ أن خلقه الله مجبول على مخالطة الناس ومعايشتهم، فلا يمكن أن يعيش وحيدا ، فلذلك وضع الله لنا ضوابط وقواعد في التعامل مع البشر، كما بين رسولنا الكريم المبادئ والأخلاق الحميدة التي لابد أن تتصف بها ولكن في هذه الكلمات الموجزة سنتحدث عن فئة من الناس ممن نتعامل معهم في حياتنا اليومية فئة نطلق عليها “المصلحجية” الذين لا هم لهم إلا تحقيق مصالحهم الشخصية ، فيتعاملون مع الناس على هذا المبدأ السخيف ، كما أن لهم في تعاملهم مبادئ وطقوس، شعارهم (اللهم نفسي) فمصلحتهم الشخصية مقدمة على كل أمر ، بل إنهم لا يرضون إلا بالشيء المحسوس ،ولذلك تراهم يتخبطون في علاقاتهم الشخصية كتخبط الممسوس ،فطريقتهم في التعامل هي تقديم مكاسبهم الشخصية وحظوظ نفوسهم على الآخرين ، فإذا لم تحصل لهم قطعوا تلك العلاقة ، فلا يمكن أن يعطيك شيئا حتى تبادر أنت بذلك ، لذا تجدهم يحرصون على تبادل المنافع والمصالح الشخصية، متقلبون في حياتهم ،متلونة طباعهم ،ويصدق فيهم قول الشاعر:
أخبث الناس صديق عن نفاق يتحرك
فمع المظلوم يبكي ومع الظالم يضحك
ومما لا خلاف فيه أن الإنسان يحرص على مصلحته والبحث عنها ، ولكن الذي يقبح في ذلك هو جعل مصالحهم الهدف الأكبر في علاقاتهم مع الناس، فإذا لم يستفيدوا منك ،تركوك وأظهروا لك وجها عبوسا، فنسوا أو تناسوا ما أمرنا أن تتصف به من الأخلاق الحسنة والمبادئ الإسلامية العظيمة ، كالصدق وسلامة الصدر ، والسماحة والتعاون ،ونفع الناس وغيرها.
وطبعا إذا احترت في معرفتهم ،وأردت أن تكشف أحدهم، فقم بنصيحته، وأظهر له الوجه الذي لم يراه من قبل أو منعه من تلك المنفعة التي يستفيدها منك ، ثم انتظر فستجده قد انقلب على عقبيه وفارقك ، وليتهم يكتفون بالفراق فحسب ، بل قد يشن عليك حربا ضروسا ، حقا إنهم ضعاف النفوس.
إن صاحب الخلق الرفيع والمبادئ الراقية لا يجعل الأمور الدنيوية مقصده الأكبر ، ولايكون في حبها مهووسا، لأن صاحب الهمة العالية لا يلتفت إلى سفاسف الأمور ، بل لا يكون حب ذاته في النفس مغروسا، كما أنه لا تؤثر عليه المصالح ، لأنه صاحب عقل وفكر ودين ، يدافع عن مبادئه ويضحي من أجلها ، ولاينحاز إلا لها، فيقدم الأهم على المهم وفق منهج وشرع الله، وللأسف هم ثلة قليلة في هذا الزمن إلا من رحم ربي.
إن أصحاب الأخلاق العظيمة هم الذين ينتقون أصحابهم وأصدقائهم على أسس ومبادئ قيمة ، ليحققوا المعنى الحقيقي لأصل من أصول عقيدتنا وهو :” الحب في الله والبغض في الله” ، فلا تجدهم يصادقون من اتصف بصفة يبغضها الله ورسوله عليه السلام ، بل ويحرصون كل الحرص على الابتعاد عن كل طريق يوصلهم إلى الوقوع في شراك هذه الصفات الدنيئة .
ومن الصفات القبيحة التي يتصف بها ضعاف النفوس (الكبر والتكبر) ، الذين لا هم لهم إلا أنفسهم وكبرياؤهم ، فقلوبهم مليئة بهذا المرض العضال الذي يقتل الصداقة ، ويفرق بين الناس ،بل ويجعلهم أحزابا متناحرة تكره بعضها البعض، حيث يعد الكبر من الأمراض القلبية الخطيرة ، إذ هو من مطايا الشيطان المفضلة لصد الناس عن اتباع الحق ، والبعد عن الطريق المستقيم ، والمتكبر له سمات ظاهرة ، وعلامات بها يعرف ، ومنها : المظاهر الخداعة التي يعتمد عليها في تعامله مع الناس ، أنه يتعامل مع من حوله بفوقية ، أنه لايقبل الحق ويبطره، أنه دائما يحاول مخالفة الناس ترفعا عنهم ، فلا يقبل رأي غيره ويمقته.
ومن الصفات القبيحة كذلك التي يتصف بها بعض الأصدقاء صفةالبخل ، وللأسف نحن في زمان كثر فيه البخلاء الذين لايعرفون الكرم طريقا ، ولايهتدون إليه سبيلا ،وصدق الشاعر حينما قال:
إذا جادت الدّنيا عليك فجد بها
على الناس طرا إنها تتقلبُ
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت
ولا البخل يبقيها إذا هي تذهبُ
وكذلك من الصفات القبيحة التي يتصف بها بعض الأصدقاء صفة (الحقد) ، وهو إضمار الشر للجاني إذا لم يتمكن من الانتقام منه ، فيخفي ذلك الاعتقاد إلى وقت إمكان الفرصة ، وكما هو معلوم أن الإسلام قد حذر من هذه الصفة ، وذم أصحابها، ومدح من لا يحملون في صدورهم حقدا ولا غلا على مسلم ، ولذلك قال عز وجل :” وَنَزَعْنَا مَا فِے صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ اِخْوَٰناً عَلَيٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَۖ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٞ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَۖ (48) ” سورة الحجر. وإن قلب الحاقد كسواد الليل مملوء بالكره والبعض والغل، يكره الناس لا يحبهم ، والإسلام يحارب الأحقاد ، ويقتل جرثومتها في المهد ، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى مستوى رفيع من الصداقات المتبادلة ، أو المعاملات العادلة .
الحقد داءٌ دفينٌ ليس يحمله إلا جهولٌ مليءُ النفس بالعلل
مالي وللحقد يُشقيني وأحمله إني إذن لغبيٌ فاقدُ الحِيَل؟!
سلامة الصدر أهنأ لي وأرحب لي ومركب المجد أحلى لي من الزلل
إن نمتُ نمتُ قرير العين ناعمها وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي
ومن الصفات القبيحة التي يتصف بها بعض الأصدقاء صفة التلون وهو الصديق المتلون الذي لا يثبت على حال، أي لا يثبت على رأي ، ولا على فكر ، متقلب حسب هواه ومزاجه، فتارة تراه يحب شيئا ما ، وتارة يكرهه، متقلب حتى في علاقاته مع الناس ، يكون في يوم ما واضحا كالشمس ، وفي يوم آخر غامضا كالضباب.وللأسف تجد بعض الناس ليست لها شخصية مستقلة ، ولا رأي ثابت، بل هو أقرب مايكون شبها بالسائل الشفاف، يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه ، فهذا النوع من الناس إذا جلس مع المتدينين أظهر التدين والصلاح ، وانتقد غير المتدينين وعابهم، وإذا جمعه المجلس مع غير المتدينين وافقهم في أخلاقهم وأقوالهم ، وربما استهزأ بالمتدينين وانتقصهم، فهو متلون متقلب لايثبت على حال ، فهو كالحرباء التي تتغير ولا تثبت ولا تستقر على حال ، وهذه الصفة القبيحة قد حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” تجدون شر الناس ذا الوجهين ، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه”.متفق عليه
وختاما :الإنسان يحتاج إلى صديق في كل حال ، إما عند سوء الحال ليعاونه، وإما عند حسن الحال ليؤانسه، وليضع معروفه عنده، ومن ظن أنه يمكنه الاستغناء عن صديق ، فهو مغرور ، ومن ظن أن وجود الصديق أمر سهل ، فقد جانبه الصواب ، ولكثرة نفع الصديق ، سئل حكيم عن الصديق فقال : “هو أنت بالنفس ،إلا أنه غيرك بالشخص ،فإذا وجد الإنسان أصدقاء ذوي ثقة ، وجد بهم عيونا وآذانا وقلوبا كلها له، فيرى الغائب بصورة الشاهد ، واختيار من تميل إليه لتصادقه إمر صعب، إذ قد يدافع عنك الإنسان الناقص فتظنه فاضلا”.
ـــــــــــــــــــ
هوامش:
(1): د. عبدالعزيز سالم شامان الرويلي ، كتاب ” قبيح الصداقة ” ،إصدارات شبكة الألوكة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13598