ذ. هند لودي ـ أستاذة التعليم الابتدائي، حاصلة على ماستر متخصص في الإدراك العصبي البشري وصحة السكان من جامعة ابن طفيل كلية العلوم سنة 2017
لقد فرض التطور العلمي والتكنولوجي والتراكم المعرفي على النظم التربوية التعليمية أحاديث تغير وتحولات في وجهتها وبناء أسسها، إذ لم تعد وظيفتها التقليدية في نقل المعارف بالعملية الكافية لتلبية احتياجات المجتمع، وتكوين فرد قادر على التكيف مع متطلبات عصره، مما جعلها تعمل على تكيف التعليم حسب حاجات الفرد والمجتمع وسوق العمل والوظائف، وهذا ما أدى بالعديد من دول العالم وفي مقدمتها الدول المتقدمة تعمل على اصلاح نظامها التربوي والتعليمي مسترشدة في ذلك بأحدث ما توصلت إليه الدراسات العلمية التربوية في مجال بيداغوجيا التعليم، واستحداث أنجع الطرق والوسائل لضمان تكوين أفضل للمخرجات التعليمية لتحقيق أهدافها البعيدة المدى على المستوى الاجتماعي ككل.
ومن هذا المنطلق تبنت الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 المشروع الشخصي للمتعلم كإطار مرن لإعداد المتعلم لمجابهة متطلبات الحياة في ظل التحولات السريعة على مجموعة من الأصعدة والمستويات، وذلك عن طريق الحرص على إمداد المتعلم بالمعارف والكفايات والأدوات والمنهجيات الكفيلة بمساعدته على استيعاب وتدبير هذه التحولات، وتطوير قابلياته للمعرفة والعمل وتحقيق الذات والعيش المشترك مع الآخر، كما تؤكد على ذلك التوجهات الحديثة للتربية، المتعارف عليها في المؤسسات الدولية التي تعنى بالتربية والتكوين والبحث العلمي، يقول (بيرمارتان):” المشروع الشخصي للمتعلم كينونة وجدانية وتربوية يتبناه المتعلم ويستدخله نفسانيا وعاطفيا ومعرفيا ويربطه بأفق مستقبلي أوسع، حيث يعمل الجميع من خلاله على مساعدة المتعلم على تمثله وبنائه، وذلك عن طريق الممارسات التربوية والبيداغوجية الملائمة، ويضيف (جون كيشار) وهو كذلك أحد منظري المشروع الشخصي للمتعلم :” المشروع الشخصي للمتعلم، ليس مجالا للمتمنيات والأحلام الصرفة، وإنما إطار للممارسات المتبصرة في ثلاثة مستويات: في الوضعية الحالية، في الوضعية المستقبلية التي يتمناها المتعلم، وفي الوسائل المتاحة لتحقيقيها …”، وأما (محمد تحي وجليل الغرباوي) “فيعتبران أن المشروع الشخصي للمتعلم هو حلقة تفاعل بين مجموعة من الأبعاد النفسية والتربوية والاجتماعية، وتفاعل جهود عدة متدخلين ويندرج في إطار نزوع طبيعي نحو المستقبل في تفاعل مع الماضي والحاضر يوجه المتعلم نحو بناء تاريخه الشخصي وبحث عن الإشارات والعلامات والعلاقات التي تؤهله للتحكم في الممكن ويسمح له بتوقع المنتظر، والاستعداد مع المحيط والقدرة على التعبير عن الذات واثباتها وتمثل هويته الذاتية والجماعية.” وضمن هذا السياق، انكبت الوزارة الوصية على إعداد تصور جديد لنظام التوجيه المدرسي والمهني يقوم على حزمة من الإجراءات والتدابير تنتظم في سيرورة تكاملية ومندمجة طيلة المسار الدراسي والتكويني للمتعلم، تحضيرا له للاندماج في الحياة العملية، ومن أهم هذه المبادئ نشير لما يلي:
أولا: اعتبار المتعلم منطلقا وغاية للنظام الجديد للتوجيه، باعتباره فاعلا نشيطا ومسؤولا عن تعلماته واختياراته.
ثانيا: ارتكاز النظام الجديد للتوجيه على محورية المشروع الشخصي للمتعلم، باعتباره سيرورة ذاتية وبيداغوجية وذهنية ووجدانية ونفسية واجتماعية لها تمظهرات خارجية تتجلى أساسا في الاندماج الفعلي للمتعلم في الحياة المدرسية والتكوينية والجامعية.
ثالثا: جعل مؤسسات التربية والتكوين، في علاقتها مع محيطها السوسيومهني مواكبة وداعمة للمشروع الشخصي للمتعلم، وتعزيز وظيفتها التوجيهية عبر تظافر جهود مختلف الفاعلين التربويين والشركاء.
رابعا: جعل الفعل التربوي والتكويني فعلا مواكبا للمشروع الشخصي للمتعلم، عبر إدماج بعد التوجيه المدرسي والمهني ضمن سيرورة التربية والتكوين بمختلف مكوناتها.
خامسا: استمرارية المشروع الشخصي للمتعلم عبر مختلف أطوار التربية والتكوين، منذ نهاية التعليم الابتدائي إلى غاية اندماجه في الحياة العملية.
ولقد تحكمت في هذا التوجه الإصلاحي للوزارة، مجموعة من المرجعيات التربوية والتنظيمية والقانونية، نشير لأهمها:
– خطابات جلالة الملك : التي جعلت من نظام التوجيه المدرسي والمهني عامة، والمشروع الشخصي خاصة، مدخلا أساسيا للرفع من جودة مخرجات منظومة التربية والتكوين، ومحددا من محددات الملائمة بين هذه المخرجات والاندماج الاجتماعي، حيث أكد خطاب سنة 2012، على ضرورة مواكبة المتعلمين وجعلهم فاعلين في تنمية شخصياتهم، وتطوير ملكاتهم، وتفعيل ذكاءاتهم، واستثمار طاقاتهم الإبداعية وقدراتهم الذاتية تيسيرا لاندماجهم في مساراتهم الدراسية والاجتماعية والمهنية، في ظروف تربوية مطبوعة بالحرية، والمساواة، واحترام التنوع والاختلاف، والتعايش مع الآخر ، في حين ركز خطاب سنة 2018 ، على إعطاء الأسبقية للتخصصات التي توفر الشغل ، واعتماد نظام ناجع للتوجيه المبكر، سنتين أو ثلاث سنوات قبل البكالوريا، لمساعدة المتعلمين على الاختيار، حسب مؤهلاتهم وميولاتهم، بين التوجيه للشعب الجامعية أو للتكوين المهني.
– الميثاق الوطني للتربية والتكوين (2000-2010): الذي اعتبر في دعامته السادسة، أن التوجيه التربوي جزء لا يتجزأ من سيرورة التربية والتكوين، بوصفها وظيفة للمواكبة وتيسير النضج والميول وملكات المتعلمين واختياراتهم التربوية والمهنية، وإعادة توجيههم كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ابتداء من السنة الثانية من المدرسة الإعدادية وصولا إلى التعليم العالي.
– البرنامج الاستعجالي (2009 – 2012): الذي راهن على تمكين كل تلميذ من وسائل التوجيه نحو تكوين يتماشى مع ميولاته، ويعطي إمكانيات مستقبلية جيدة للانفتاح على منافذ سوق الشغل، مع تمكينه من إعادة التوجيه في حالة الفشل في إحدى الشعب، أو المرور من شعبة إلى أخرى لمتابعة الدراسة في مستوى أعلى، وتوحيد وتقنين تدخلات مختلف الفاعلين في مجال الإعلام والمساعدة على التوجيه، وتطوير تدخلاتهم، وإشراك الأساتذة، والإدارة التربوية، والآباء والمهنيين، في المساعدة على التوجيه.
– الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين (2015 – 2030): أكدت الرافعة 12 في المستلزم 83 على ضرورة مراجعة شاملة لمنظومة التوجيه المدرسي والمهني والجامعي على المدى القريب والمتوسط، عبر إعادة النظر في مفهوم التوجيه وطرقه وأساليبه عبر إرساء منظور وطني ومنح التوجيه التربوي أدوارا جديدة لمصاحبة المتعلم في بلورة مشروعه الشخصي، وتعزيز التربية على الاختيار.
– برنامج عمل وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة (2018 – 2019): والذي كان يروم إلى إقرار نظام ناجع ونشيط للتوجيه من خلال:
مأسسة العمل بالمشروع الشخصي للمتعلم منذ نهاية التعليم الابتدائي، وجعله محور تدخلات جميع الفاعلين في مجال التوجيه المدرسي والمهني بالتعليم المدرسي والتكوين المهني والتعليم العالي؛
مأسسة مهام الأستاذ الرئيس بالتعليم الثانوي بسلكيه، ضمانا لمواكبة تربوية للمتعلمين بهدف إقدارهم على بناء مشاريعهم الشخصية؛
تأطير العمل التخصصي في مجال التوجيه المدرسي والمهني للرفع من جودته، وتعزيز الموارد البشرية المتخصصة؛
مراجعة التكوين الأساس لأطر التوجيه، وإدماج التوجيه المدرسي والمهني في التكوين الأساس والمستمر لباقي الفاعلين التربويين؛
التحديد الدقيق لأدوار مختلف الفاعلين في مجال التوجيه المدرسي والمهني، بما يضمن تكاملها وتركيزها على مواكبة المشروع الشخصي للمتعلم؛
وضع نظام معلوماتي مندمج يستجيب لحاجات المتعلمين من خدمات التوجيه المدرسي والمهني، ولحاجات الفاعلين لتدبير هذه الخدمات والمساطر المتعلقة بها، وتنظيم تدخلاتهم في هذا المجال؛
– الكتاب الأبيض
اعتمد الكتاب الأبيض ثلاثة مداخل لبناء المناهج، وهي تحديدا مدخل الكفايات ومدخل القيم ومدخل التربية على الاختيار، بالإضافة إلى الكفايات المطلوب تنميتها في إطار المواد الدراسية من تخطيط وتدبير وتقويم وتطوير وبحث، أو في إطار علاقة المواد الدراسية فيما بينها سواء تعلق الأمر بالكفايات المنهجية أو الاستراتيجية أو الثقافية أو التكنولوجية وهي كفايات تتقاطع وتدعم كفايات التوجيه المدرسي والمهني المراد ترسيخها عن طريق العمل بمقتضيات المشروع الشخصي للمتعلم.
إن المرجعيات المشار إليها آنفا، تؤكد بما لا يدع أي مجال للشك، ضرورة اعتماد آلية المشروع الشخصي للمتعلم في السياق المدرسي والتكويني عبر كل المحطات والمراحل التي يمر منها المتعلم سواء بصفته تلميذا أو طالبا أو متدربا.
ويتأسس المشروع الشخصي للمتعلم على منظور جديد للنموذج البيداغوجي، يقوم على القطع مع النموذج البيداغوجي التقليدي الذي يقوم بتغليب الهاجس الكمي المعرفي والنظري على حساب البعد الكفائي والجانب العملي التطبيقي، وذلك باعتماده على ممارسات بيداغوجية يحكمها المنظور التجزيئي والتفتيتي للمضامين، على حساب إكساب المتعلم كفايات حياتية لها علاقة بالواقع المعيشي، ذات طابع اندماجي ممتد عبر مختلف المواد الدراسية.
حيث يرتكز النموذج البيداغوجي الجديد الداعم والمحتضن للمشروع الشخصي للمتعلم على مجموعة من المقومات ولعل أهمها:
أولا: محوريته في العمل البيداغوجي والتربوي، باعتباره سيرورة معرفية وعملية ونفسية واجتماعية لها امتدادات في مشاريع تدريس المواد الدراسية والمشروع الإجمالي للمؤسسة، وتمظهرات تتجسد في الاندماج الفعلي للمتعلم في الحياة المدرسية والتكوينية والجامعية والاجتماعية.
ثانيا: الانتقال من مفهوم التلميذ إلى مفهوم المتعلم، وهو انتقال بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، من منطق التلقين والشحن والإلقاء السلبي الأحادي الجانب، إلى منطق التعلم والتعلم الذاتي، وتنمية الحس النقدي وروح المبادرة، مما سيحفز المتعلم على تطوير قدراته وإنماء كفاياته وتطوير مواهبه وتمكينه من فرص التعبير عن الذات والتفاعل مع محيطه والمشاركة بحرية ومسؤولية في اختياراته وقراراته الآنية والمستقبلية كل هذا في إطار التفاعل الخلاق بين المتعلم والمدرس، من خلال التنشيط والمصاحبة والوساطة.
ثالثا: جعل تشجيع النبوغ والتميز أحد مكونات المنهاج الدراسي، في إطار الاحترام التام لتكافؤ الفرص والإنصاف والاستحقاق، مع اعتماد آليات وبرامج للاستكشاف المبكر للنبوغ والتفوق لدى المتعلمين منذ المستويات الأولى للتربية والتعليم، مع ربطهما بمختلف المجالات، والاهتمام بتطوير المهارات الذهنية واليدوية والفنية وتنمية الإبداع والابتكار في المناهج التعليمية، من أجل الاكتشاف المبكر للميولات المهنية.
رابعا: اعتماد المنظور السوسيو- بنائي في التعلم، المؤسس على الاجتهاد والتنوع في تحديد وإبداع الصيغ التربوية والبيداغوجية المتعلقة بطرق التدريس والتنشيط، وطرق التقويم والوسائل الديداكتيكية المنسجمة مع هذا المنظور.
وختاما، فالنموذج البيداغوجي الجديد يراهن على تحفيز المتعلم، عبر إطلاعه على الأهداف المتوخاة من كل مادة دراسية، وخصوصا ما يتعلق بجوانبها التطبيقية، حيث تنصهر وتتفاعل كل المعارف والمهارات والكفايات في بوثقة لتغذي ملمحا لمتعلم قابل للتفاعل مع محيطه في كل تجلياته ومستوياته، دون إغفال الجوانب المستعرضة والعلاقات التي تربط المواد فيما بينها، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بتملك كفايات مرتبطة بالحياة العملية والمستقبلية للمتعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
– المشروع الشخصي للمتعلم في ضوء الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 من التصور إلى التنزيل الميداني, تأليف عبد العزيز السنهجي طبع ونشر شمس برينت – سلا، الطبعة الثالثة 2020.
– بحث لنيل شهادة الماستر في علوم التربية تخصص ارشاد وتوجيه للطالبة الباحثة أصالة حجايجي بعنوان: “المشروع الشخصي للتلميذ وعلاقته بالنضج المهني للسنة الجامعية 2018/2019.
Source : https://dinpresse.net/?p=19139