5 مايو 2025 / 17:50

في مواجهة تمدد “القاعدة” بغرب إفريقيا: كيف يعيد المغرب هندسة توازنات الساحل؟

سعيد الزياني ـ دين بريس
يظهر التمدد المتسارع لتنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبط بالقاعدة في الساحل الإفريقي تحولا ملموسا في بنية التهديدات الإرهابية التي تواجه المنطقة، فمنذ 2021، شهدت مناطق غرب مالي، ولا سيما إقليم “كاي”، تصاعدا لافتا في العمليات التي استهدفت مؤسسات الدولة، بلغت سبعة أضعاف مقارنة بالسنوات السابقة، بحسب دراسة حديثة صادرة عن معهد “تمبكتو”.

هذا التمدد يقاس بتغير نمط الانتشار، حيث بات التنظيم يعتمد على منطق “الاختراق الشبكي” بدل “الاحتلال الجغرافي”، من خلال التغلغل في الاقتصاد غير الرسمي، وتوظيف شبكات التهريب كأداة للتمويل وبسط النفوذ.

وترتكز استراتيجية التنظيم على إضعاف مركزية الدولة من خلال عزل العاصمة المالية عن محيطها الحيوي، لا سيما عبر السيطرة غير المباشرة على محور النقل بين باماكو والسنغال، ما يشير إلى محاولة منهجية لتطويق الدولة ماليا، اقتصاديا ثم أمنيا.

ويتزامن هذا مع توسيع قاعدة الأنشطة غير النظامية العابرة للحدود، بما في ذلك تهريب الماشية والخشب والمعادن، ما يمنح الجماعة قدرة تمويل ذاتي، ويكرس واقعا ميدانيا يجعل من التنظيم فاعلا مواز للدولة، دون الحاجة إلى السيطرة الصلبة على الأرض.

ولا يركن التنظيم إلى العمليات المسلحة وإنما يعتمد على استراتيجيات التأثير الاجتماعي، من خلال استغلال مظاهر الهشاشة الاقتصادية وغياب الخدمات العامة، وهذا ما يظهر جليا في مناطق “الفلان”، حيث يجري توظيف التهميش الاجتماعي والعرقي كأداة لتوسيع التجنيد، ويتم تقديم التنظيم كبديل يوفر شكلا من “الحماية” أو “العدالة المحلية”، خصوصا في الفراغات الأمنية أو في المناطق المتروكة من طرف الحكومات المركزية.

أما على المستوى الجيوسياسي، فإن التوسع الجغرافي للتنظيم نحو مناطق حدودية مع موريتانيا والسنغال يعكس انتقالا من نمط التمركز في المثلث الحدودي (مالي ـ النيجر ـ بوركينا فاسو) إلى نمط “الحزام الزاحف”، الذي يعيد تشكيل التوازنات الأمنية غرب القارة.

ويلاحظ أن التنظيم لم يرسخ بعد قواعد ثابتة في الأراضي السنغالية أو الموريتانية، لكنه يحاول التسلل عبر البوابة الاقتصادية والاجتماعية، مستفيدا من ضعف الرقابة الحدودية، وشبكات المصالح المحلية.

وتتباين ردود الفعل الإقليمية، ففي حين اتجهت دول الساحل الثلاث (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) بعد الانقلابات إلى تعزيز التنسيق الأمني فيما بينها بمعزل عن الشراكات الغربية، تتسم مقاربة المغرب بخصوصية استراتيجية مختلفة، حيث تبنت مقاربة متعددة الأبعاد، تمزج بين الأمن الوقائي، والدبلوماسية الدينية، والتعاون الاستخباراتي.

ويبرز الدور المغربي بشكل خاص من خلال مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي تحولت إلى أداة دينية استراتيجية ناعمة، تستهدف إعادة تأطير المرجعيات الإسلامية في بلدان الساحل وفق المنظومة المالكية ـ الأشعرية ـ الصوفية الوسطية، هذا التدخل لا يقصد به فقط ضبط المجال الديني، بل يمثل رافعة أمنية غير مباشرة، نظرا إلى العلاقة المباشرة بين تفكيك الحواضن الفكرية المتطرفة وتحصين المجتمعات المحلية من الاختراق الجهادي.

علاوة على ذلك، يشكل التعاون المغربي مع الدول الإفريقية في مجالات التكوين الديني، والمساعدة التقنية، والتبادل الاستخباراتي، جزء من سياسة أمنية استباقية تتجاوز البعد العسكري، وتحرص الرباط على تعزيز نفوذها المؤسساتي في المنطقة، دون التورط في صراعات عسكرية أو تحالفات ظرفية، وهو ما يمنحها قدرة أكبر على التفاعل مع متغيرات المشهد الإقليمي المعقد.

وبينما تتراجع فرنسا وغيرها من القوى الغربية، وتتزايد محاولات روسيا وتركيا والصين ملء الفراغ في المنطقة عبر الأدوات العسكرية والاقتصادية، يقدم المغرب نموذجا ثالثا يتأسس على النفوذ المعرفي والديني واللوجستي، وليس على التدخل المباشر.

هذه المقاربة قد تشكل في المدى المتوسط أحد البدائل الممكنة للنموذج الأمني الفاشل الذي أثبتت سنوات الحضور العسكري الغربي عجزه عن الحد من تصاعد التهديدات، إضافة إلى كونها تضاد بشكل مباشر السياسات الإقليمية التي غذت عوامل الانقسام والهشاشة، ففي الوقت الذي اختار فيه المغرب بناء الاستقرار عبر تحصين الشرعية الدينية وتعزيز مناعة الدولة الوطنية، سلكت الجزائر مسارا مناقضا، قائما على دعم النزعات الانفصالية، بما في ذلك احتضانها لحركة البوليساريو، التي تحولت بحسب تقارير أمنية دولية إلى عنصر بالغ التعقيد في معادلة الأمن الإقليمي.

ويطرح داخل الأوساط التحليلية المتخصصة تساؤل مشروع حول وجود تقاطعات ميدانية بين عناصر من البوليساريو وشبكات التهريب والإرهاب في منطقة الساحل، خصوصا على مستوى التحرك في المناطق الرمادية وتبادل الخدمات اللوجستية، كما أن الغموض الذي يكتنف حدود التنسيق بين الجماعات المسلحة وشبكات مرتبطة بأجهزة إقليمية، يثير مخاوف حقيقية بشأن استخدام الإرهاب كأداة جيواستراتيجية لتقويض توازنات المنطقة، واستهداف النموذج المغربي في محيطه الإفريقي.

خلاصة القول، إن تمدد تنظيم القاعدة في الساحل يعكس خللا بنيويا في بعض دول المنطقة والسياسات الأمنية لها، ومع فشل المقاربات القائمة على التدخل العسكري الخارجي والانقلابات الداخلية، تبرز الحاجة إلى نماذج بديلة تؤمن بجدوى العمل على مناعة المجتمعات، لا فقط على تحصين الثكنات.

وفي هذا التحليل، يمثل المغرب فاعلا متفردا يستثمر في أدوات طويلة المدى، تتعامل مع البيئة الإفريقية بمزيج من الفهم الثقافي والتخطيط الاستراتيجي، وهو ما يجعل من حضوره في معادلة الساحل ضرورة أمنية وليست خيارا دبلوماسيا.