محمد خياري
يا صاح، إن الحداثة العقلانية حين تُفَرَّغ من الروح، تُصبح كجسد بلا نفس، وككلمة بلا معنى. يسخر أربابها من السير نحو الغيب، ويستنكرون ما لا يُدرك بالحواس، كأنهم يريدون أن يُطفئوا نوراً لا يُرى إلا بالبصيرة. يعاملون الحكمة الروحية كما لو كانت أسطورة مهترئة، يُلهى بها عن تراجم التاريخ، غير مدركين أن التاريخ نفسه لا ينبض إلا حين يلامس السرّ.
لكن، هل سألوا أنفسهم: كيف ظل العقل متوهجًا، مقدّسًا، رغم كل ما أُلبس عليه من شكوك في العالم الإسلامي؟ أليس لأن في سماء إمارة المؤمنين شمسًا لا تغيب، حتى وإن سقطت الأقنعة عن وجه السياسة؟ إن إمارة المؤمنين ليست سلطة تُنتخب، ولا منصبًا يُقيّم بالأصوات، بل هي رباطٌ بين الأرض والسماء، بين الظاهر والباطن، بين العقل والحكمة.
ليست إمارة المؤمنين نفيًا للعقل، بل هي اكتماله. إنها فنٌّ روحي يهتم بما وراء العقل، لا ليقصيه، بل ليهديه إلى مقام الحكمة. فالعقل حين يُحرم من مجالسة القلب، يغدو سيدًا أعمى، يتيه في الصحارى دون دليل. أما حين يُصبح عبدًا للحكمة، فإنه يُبصر ما لا يُرى ويُدرك ما لا يُقال.
في المغرب، أمير المؤمنين ليس مجرد حاكم، بل هو قبةٌ تُظلّل النسيج الروحي للأمة، وحلقة الوصل بين السماء والأرض. هو نظامٌ كوني، يشبه اتحاد الروح بالجسد، حيث تتكافل الرعية والسلطان في علاقة لا تُقاس بالمصالح، بل تُوزن بالبركة.
يقول الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز: “الطقوس الملكية في المغرب هي مسرح للقداسة، حيث يُعاد تشكيل العالم الرمزي للأمة عبر أداءات متكررة تُجسِّد الشرعية في صورة ملموسة”. هذه الطقوس ليست مجرد مظاهر، بل هي تجليات لسرٍّ روحي يُعيد إنتاج العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الشيخ والمريد، بين القطب والدائرة.
في حلقات الذكر، حيث تتعالى الأصوات بذكر الله، وتمتزج أنفاس المريدين بأنفاس الشيخ، تتجلى البيعة الصوفية كنموذج مصغر للبيعة السياسية. الزاوية ليست مكانًا للعبادة فحسب، بل هي رحمٌ يُولد فيه النظام الروحي والاجتماعي، وتُعاد فيه صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين الرعية والسلطان.
في هذا النموذج المغربي الفريد، تتداخل الشرعية التاريخية بالشرعية الدينية، في إطار من التكامل لا الانفصام. يسعى المريد إلى القرب من الشيخ عبر الطاعة المطلقة، متخذًا منه وسيلة إلى الله. هذا القرب الروحي يُترجم في النظام السياسي إلى قرب السلطان، حيث يُمنح الأمير صفة القرب، ويُظهر العفو كرحمة إلهية.
يقول عبد الله حمودي: “السلطان في المخيال المغربي هو قطب البركة، ومصدر النعم، والوسيط بين السماء والأرض”. فكما يتخلى المريد عن إرادته ليصل إلى القمة الروحية، يتخلى الفرد عن مصالحه الشخصية ليخدم أمير المؤمنين بإخلاص يشبه إخلاص المريد.
هذه البنية من الخدمة تُجسّد النسيج الاجتماعي المغربي، حيث يذوب الفرد في الجماعة، وتذوب الجماعة في السلطان. يصف ديل إيكلمان هذه العلاقة بأنها “نظام من التبعية المتبادلة، حيث يُقدّم الولاء مقابل الحماية والبركة”. فالمريد يتلقى بركات الشيخ، ويرد عليها بهدايا ترمز إلى الشكر والتعلق، كما تُقدّم الرعية هدايا الولاء للملك، تعبيرًا عن الطاعة والخضوع.
هذه الدورة من الهبة ليست مجرد تبادل مادي، بل هي طقسٌ مقدس، يُعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية ويُعمّق التراتبية الروحية. يقول جورج سبيلمان: “الهبة في النظام التقليدي تُعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية وتُعمّق التراتبية الروحية”.
ويتوجه الناس إلى قبور الأولياء مثل مولاي إدريس وعبد السلام بن مشيش لأخذ البركة، مقدمين الصدقات والولائم في مواسم محددة. هذه الأضرحة، بزخارفها الفاخرة من القرمود الأخضر والجبص المنقوش والرخام الوردي، تُشبه قصور الملك، مما يعكس التشابه بين الزاوية كمركز روحي، والقصر كمركز سياسي.
في المولد النبوي ومواسم الأولياء، يشارك الملك أو ممثلوه في الطقوس الصوفية، كالأمداح النبوية والأذكار الجماعية، التي تُجدد العهد الروحي بين الرعية والسلطان. خلال هذه الاحتفالات، يصبح السلطان مركز البركة الجماعية، وكأنه قطب يدور حوله الفلك الصوفي.
يلاحظ ميشو بيللير أن “الطقوس الملكية تستدعي الرموز الصوفية لتعزيز الشرعية وتذكير الرعية بالبعد المقدس للسلطة”. فطقوس تقبيل اليد ترمز إلى الخضوع والتسليم، وهي نفسها الحركة التي يُقدّمها المريد لشيخه. المظلة السلطانية في حفل الولاء تمثل الظل الإلهي والحماية، وهدية للبركة الصوفية التي يُظلّل بها الشيخ مريديه.
الركوب فوق الحصان يُجسّد السيادة والقوة، لكنه أيضًا يُذكّر برحلات الأولياء الصوفية وكراماتهم. هذه الرموز، كما يحلل عبد الله حمودي، “تُحوّل السلطان من حاكم سياسي إلى كائن مقدس، وسيط بين العالمين”.
ضريح محمد الخامس في الرباط ليس مجرد قبر، بل هو رمزٌ للشرعية المزدوجة: شرعية النضال من أجل الاستقلال، وشرعية البركة الروحية. زيارة الملك لهذا الضريح، والترحم على المغفور له محمد الخامس والحسن الثاني، هي طقوس تُجسّد استمرارية البركة من الأسلاف إلى الخلف.
في التصوف، يُعتبر الولي الميت حيًّا في قبره، قادرًا على منح البركة، وكذلك يُنظر إلى الملك الراحل كمصدر شرعية دائمة لخلفه. فكما أن الشيخ يُورّث البركة لمريديه، يُورّث السلطان الشرعية لورثته، في سلسلة لا تنقطع من النور.
من هذه الشذرات المتفرقة، يتضح أن إمارة المؤمنين في المغرب هي نسيجٌ معقد من الخيوط الروحية والسياسية، حيث يُستلهم التصوف كإطار للشرعية والوحدة. الرموز والطقوس، من تقبيل اليد إلى زيارة الضريح الملكي، تُجسّد هذا الاتحاد الفريد بين الروحي والسياسي.
وهكذا، يصبح التصوف استراتيجية مقدسة لتعزيز الشرعية السياسية، حيث يتحول السلطان إلى قطبٍ روحي، يجمع بين السلطة الزمنية والروحية. ويصبح الضريح فضاءً يجمع بين الروحي والسياسي، يتدفق منه الولاء من الرعية إلى السلطان عبر البركة.
لقد أصبح التصوف في المغرب جسراً روحياً يربط السماء بالأرض، والسلطان بالرعية، في دائرة من التكامل لا تنفصم عراها. وهو نموذجٌ يُذكّر بكلمات العارفين: “السلطان ظل الله في أرضه”. فليس في الأمر أسطورة، بل سرٌّ يتوهج في سرائر المؤمنين، لا يُقاس بالحواس، بل يُدرك بالبصيرة، ويُحيا بالولاء، ويُثمر بالبركة.
هل آن لأهل الحسابات أن يُخلعوا عنهم ثياب الجفاف، ويرتدوا عباءة النور؟ فهلموا إلى حضرة السر، حيث لا سلطان إلا لمن جمع بين العقل والقلب، بين الحكم والبركة، بين الأرض والسماء.