9 يونيو 2025 / 23:04

في ذكرى رحيل المفكر التونسي هشام جعيط (1935-2021)

الدكتور الحسن الزروالي ـ باحث في الفلسفة والفكر الإسلامي
مقدمة:
قبل بضعة أيام، حلت بنا الذكرى الرابعة لوفاة المفكر التونسي هشام جعيط، وهي فرصة مناسبة للتذكير ببعض إسهامات هذا الفيلسوف والمفكر العربي الكبير في تطوير الفكر العربي الإسلامي، ومحاورة الفكر الغربي برؤية نقدية تحاول استنهاض الهمم العربية لتحقيق الاقلاع الشامل، والخروج من ربقة التخلف والتبعية للغرب التي طال أمدها، مع غياب تام لأي ومض ضوء قد يلوح في الأفق المنظور.

رحل عن دنيانا في فاتح يونيو سنة 2021 تاركا فراغا كبيرا عل الساحة الفكرية يصعب سد فجوته، على اعتبار مكانته العلمية الكبرى، وثراء مؤلفاته، وتماسك أطروحته التي نسجها انطلاقا من العديد من الكتب التي ألفها طيلة ثلاث وخمسين سنة من البحث والتأليف والنشر والتدريس باللغتين العربية والفرنسية.

فمن هو مفكرنا الدكتور هشام جعيط؟ و ما هي أهم جوانب مشروعه الفكري الذي وضعه في مصاف كبار المفكرين العرب؟

لمحات من حياة هشام جعيط:

كان مولد هشام جعيط في 6 دجنبر سنة 1935 بمدينة تونس العاصمة. ينتمي لأسرة برجوازية اشتهرت بتولي مهام سامية في العلم والسياسة، وهذا ما وَفَّرَ له إمكانيات هامة هيأت له كل الظروف لتلقي تعليم جيد، استطاع من خلالها دراسة التعليم الابتدائي والثانوي بمسقط رأسه قبل أن يحصل على البكالوريا ويهاجر الى فرنسا لمتابعة دراسته بجامعة السوربون حيث حصل على شهادة التبريز بإشراف المستشرق الشهير كلود كاهين سنة 1962. لم يتوقف به الأمر عند هذا الحد، بل انتسب الى سلك الباحثين في الدكتوراه بنفس الجامعة لينال شهادة الدكتوراه في تخصص التاريخ الاسلامي,

عاد هشام جعيط الى تونس فانتسب الى الجامعة كباحث ومدرس، لكن خلافات حادة نشبت بينه وبين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عجَّلتْ بعودته الى فرنسا ليُدشن مسيرته التأليفبة، والتي توجت بكتاب بعنوان: الشخصية والصيرورة العربية الاسلامية. أثار الكتاب ضجة كبرى على الساحة العربية، لا سيما بعد ترجمته الى اللغة العربية وإعادته نشره ببيروت، بعدها سينشط قلمه السيَّال ليؤلف العديد من الكتب الشهيرة والتي يمكن النظر إليها بمثابة مشروع فكري متكامل، هَمَّ، في معظم جوانبه، حقول:التاريخ والدين والسياسة والفلسفة والاجتماع…

قادته مسيرته العلمية الى التدريس في العديد من الجامعات ومعاهد الدراسات العليا في كل من فرنسا وكندا والولايات المتحدة الامريكية ولبنان، قبل أن يحط الرحال من جديد في مسقط رأسه تونس، والتي بقي فيها باحثا ومدرسا ومؤلفا إلى أن وافته المنية في فاتح يونيو 2021.

جوانب من المشروع الفكري لهشام جعيط:

أولا: الهوية العربية بين الثبات والتحول:
في باكورة كتبه، حاول المرحوم هشام جعيط مقاربة موضوع الهوية العربية؛ ورغم انتماء مفكرنا الى جيل الماركسيين والهيجليين الذين حاولوا دراسة التاريخ العربي وقضاياه بمنهج تاريخاني أو مادي جدلي مجاراة لما كان سائدا في ذلك العصر، إلا أن جعيط تأثر بالمنهج الوجودي، وبأهم رواده الفرنسيين، وبالضبط جون بول سارتر.

وفي مقاربته لموضوع الهوية العربية، يرى جعيط أن هناك مكونا روحيا يجمع الأمة العربية الاسلامية يُستمد من الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن التأويل السياسي للإسلام من طرف العديد من القوى التي تنافست على السلطة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أدخل الأمة في مآزق لا حصر لها كلها ترجع الى سبب واحد، وهو العلاقة الملتبسة بين المجالين الديني والسياسي، هذا المأزق الذي لا زال يقض مضجع العرب، ويعوق نهضتهم إلى يومنا هذا، بل سيظل يرافقهم ما داموا لا يمتلكون وصفة ملائمة لضبط العلاقة بين الدين والسياسة.

ثانيا: العرب والحداثة:
في كتابه العرب والحداثة، حاول هشام جعيط أن يرصد طبيعة العلاقة بين العرب والغرب، مجيبا عن سؤال إشكالي عميق صيغته هي: لماذا يكره العربُ الغربَ؟

وإذ يجيب جعيط عن هذه الإشكالية، فإنه يستعرض مراحل فارقة في التاريخ، تعود الى الحروب الصليبية التي عرفها تاريخ الحضارتين، الغربية والإسلامية، وخلالها جرى الاصطدام المسلح الذي كانت أضراره كبرى على المدى القصير، لكن على المدى الطويل كانت هناك استفادة متبادلة بين الحضارتين.

إن النهضتين، سواء العربية في العصر العباسي، أو الغربية التي سميت بالنهضة الاوربية كانتا محصلتين للاستفادة المتبادلة التي جرت بين الحضارتين الغربية والإسلامية، ومن ثَمَّ، فلا سبيل أمام الحضارتين إلا بالتعاون المشترك، وقراءة تقلبات التاريخ وأحداثه من زوايا إيجابية مع وجوب القفز على الفترات المظلمة، والتي كانت خلالها اللغة الغالبة هي لغة الحديد والنار.

ثالثا: العالم الإسلامي وجناحيه الشرق والغرب:
لم يكن المسلمون في فجر تاريخهم منقسمين الى مشرق ومغرب، بل قام المسلمون القادمون من الشرق بنشر الاسلام حتى وصلوا الى المغرب والأندلس وجنوب فرنسا والبرتغال والنمسا…لكن الغرب بخبثه ومشاريعه التفتيتية، وبقيادة الكنيسة، قاد حروبا صليبية على الشرق، بغرض تقسيمه وإخضاعه، تارة بمبررات دينية عقدية، وتارة بدوافع مادية توسعية عنصرية، كان أخرها مشروع سايس بيكو الذي بدأته فرنسا وإنجلترا، ولا زالت أمريكا تحميه إلى اليوم، وتسعى إلى إدامته واستمراريته تحت مسمى العولمة وحماية اسرائيل وما إلى ذلك من المبررات… على إثرها انقسم المسلمون إلى شرق إسلامي وغرب إسلامي. لكن هل هناك عوامل داخلية ساهمت في تعميق هذا الانقسام؟

فحسب هشام جعيط هناك عوامل داخلية كثيرة سهلت على الغرب إنجاح مخططاته في تكريس الفرقة بين المشرق والمغرب الاسلاميين، في مقدمتها عاملان: الخلاف المذهبي السني الشيعي من جهة، وعدم وضوح العلاقة بين الديني والسياسي في السياق العربي الاسلامي.

رابعا: فتنة العلاقة بين الديني والسياسي:
ليست العلاقة بين المجالين الديني والسياسي بالأمر البسيط حسب هشام جعيط، بل هي الإشكالية الأهم التي لم يوليها العربُ الأهمية التي تستحق؛ فمنذ وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يدورون في حلقة مفرغة، حيث كل طائفة منهم تُضفي الصواب والمصداقية على تأويلها للدين، بيد أنها في الحقيقة تُجري تأويلا للتاريخ يتوافق مع أهوائها ونزوعاتها، فتجعل منه دينا وهو مجرد إيديولوجيا وفهم بشري يحتمل الصواب والخطأ.

ومن ثَمَّ أدخل العديد من طوائف الاسلام، خاصة الشيعة والخوارج، أشياء في الدين ليست من الدين، في مقابل الطائفتين المذكورتين أضفت طائفة السنة على عمل الخلفاء الراشدين طابع القدسية، ناظرين إليهم باعتبارهم السلف الصالح الذي وجب الاقتداء به والسير على نهجه. ما جرى في فجر الاسلام هذا من أحداث كبرى لا زال يحكم المسلمين اليوم، رغم الجهود الكبرى والمشاريع النهضوية الرائدة التي قام بها العرب والمسلمون.

خامسا: العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية:
من البديهي، في الدراسات السياسية المعاصرة، أن العلمانية علمانيات، منها تلك التي تتسامح مع الدين، مثل العلمانية الألمانية أو الاسبانية أو الأمريكية، وفي مقابلها: هناك علمانية صلبة كتلك السائدة في فرنسا وتونس وتركيا سابقا. قِوامُ العلمانية الصلبة هو الإبعاد التام لكل ما له علاقة بالدين عن المجال العام، وجعله شأنا فرديا خالصا، لا دخل لمؤسسة الدولة فيه.

فما هي ملامح المنظور العلماني لهشام جعيط؟

يعتبر الدين، حسب هشام جعيط، مقوما روحيا جامعا وجماعيا، وبالتالي فمن الواجب أن تجعله الدولة بعيدا عن التوظيف السياسي من أي طرف كان، سواء كان فريقا سياسيا خاضعا للتدافع والتداول على السلطة، أو قطاعا سياديا من قطاعات الدولة، وهذا يبين بما لا يدع مجالا للشك أن جعيط من أنصار العلمانية الشاملة، والتي يعتبرها الأسلوب السياسي الوحيد الكفيل بمجاراة الغرب المادي الذي أزاح كل ما هو ما روحي من المجالات المشتركة بين المواطنين.

خاتمة:
وعلى سبيل الختم، لابد من الاعتراف أنه من الصعب الحكم على مشروع فكري من قبيل مشروع المرحوم الدكتور هشام جعيط بهذه الدرجة من الاختصار ، لكنني أعتقد أنني قد ألقيت الضوء على بعض القضايا الفكرية الكبرى التي اشتغل عليها، والتي يمكن تلخيص أهم مفاصلها الكبرى كما يلي:

– يعتبر الدين الاسلامي أهم مقوم روحي من مقومات الشخصية العربية الاسلامية، لكن مفتاح النهضة العربية الاسلامية يقوم أساسا على ابتداع علاقة جديدة تراعي المتغيرات الكبرى التي عرفتها الدولة الوطنية المعاصرة، والتي تسعى ما أمكن إلى الفصل بين المجالين الديني والسياسي، وما الفتن والصراعات والحروب التي عرفها المسلمون في عصورهم الاولى إلا نتيجة لغياب مثل هذه التصورات.

– قدر الحضارتين العربية والإسلامية أن يتعاونا ويتعايشا جنبا إلى جنب، وبتأمل مفاصل التاريخ وأحداثه الكبرى، يتبين أن التقدم الكبير الذي عرفته الحضارتين، سواء العربية أو الغربية كان بالانفتاح والتعاون بينهما، سواء مع الدولة العباسية قديما، او زمن النهضة العربية في الأزمنة المعاصرة.

– أهم الكوابح التي تمنع العرب والمسلمين من النهضة والتقدم عاملان حسب هشام جعيط: عامل داخلي يتمثل في عدم ضبط العلاقة بشكل واضح بين المجالين السياسي والديني من جهة، وعدم التهيؤ لاستيعاب الحضارة الغربية وذلك بالتواصل والتعاون معها.