محمد زاوي
الدين غير محدود في الوجود، في حين أن الإيديولوجيات الدينية المتفرعة عنه والمستمدة منه محدودة بحدود التاريخ، بحدود التفاوت الاجتماعي والتناقض الاجتماعي والسيطرة الاجتماعية، بحدود “الفعل” الاجتماعي “في الزمن” (التاريخ هو “فعل الإنسان في الزمن” في تعريف عبد الصمد بلكبير في مقال “دين الفطرة ودين الدولة”/ وهو “تطور الإنتاج المادي للإنسان” حسب عبد الله العروي في كتاب “مفهوم التاريخ”)..
التفاوت يجعل من الدين إيديولوجيا، يجرده إلى حد بعيد من معانيه الأنطولوجية والوجودية ويخضعه للضبط والسيطرة تحت أقنعة من “السحر الإيديولوجي”..
هل يخلو “الضبط” و”السحر” و”الإيديولوجيا” من دلالة على الوجود من رَواء “للظمأ الأنطولوجي” (تعبير لعبد الجبار رفاعي)؟
ليس بالضرورة يخلو ذلك من دين، وليس بالضرورة أن يدل على دين.. قد ينبعث الوجودي في خضم التاريخي، وقد يتحرك التاريخ بوحي من وجود.. كله ممكن، لكننا نتحدث عن حالة خاصة: تدبير المصلحة الاجتماعية كما هي في التاريخ، والتحقق بالمعنى الوجود بعيدا عن قبضة التاريخ..
يحتاج هذا الفعل إلى نوع من التمييز، أو لعله يستحيل فصلا في أسمى الأحوال الوجدانية، أو في خضم التفكير الملموس في التاريخ بما هو “فعل ملموس في الزمن”.
يجب الانتباه أيضا إلى أن الجدل لا يتعلق بالوجدان والتفكير الخاصين بكل فرد فحسب، وإنما -أيضا- بتاريخ الإنسان ككل..
التاريخ لا يحد من الوجدان فحسب، بل يحبل به في أحشائه في انتظار قابلة تنهي التفاوت ومعه تقييد الوجدان بقيود التاريخ (التفاوت).. في أحشاء كل سيطرة تاريخية ينمو تحرر وجداني، بيد كل نظام ديني يُحمى الدين في معناه الوجودي ولو من وراء حجاب.. وهو ما يمكن أن نطلق عليه “حفظ الكمال بالنقص”، أو لنقل “حفظ الوجدان بالتاريخ”..
إن كل سلطة دينية لا تستمد أهميتها من حفظ نظام المجتمع ومصالحه فحسب (وذلك في حال وجود هذا الحفظ)، بل أيضا من حفظ التحرر الديني منها إلى أجل.
هذا هو جدل الدين والتدين، الدين والإيديولوجيا الدينية، الذي لا يسعف في فهمه التمييز فقط، بقدر ما هو في حاجة إلى قراءتين: قراءة تاريخية في خلوة وجدانية، وقراءة وجدانية في حدث تاريخي.