28 أكتوبر 2025 / 10:36

في الفتاوى المجدية والفتاوى غير المجدية

عز الدين بونيت

قرأت في الآونة الأخيرة عددا من التدوينات تستهجن صدور فتوى عن المجلس العلمي الأعلى، بخصوص زكاة اموال الأجراء والموظفين، وكيفية احتسابها وأدائها، وتدقق في عرض المنهجية التي اتبعت في تأصيلها وبنائها. وتنقسم الروافد الفكرية لأصحاب هذه التدوينات بين متحزبين اسلاميين، ومعهم منتمون الى المجال الإيديولوجي للإسلام السياسي بكل اطيافه، وبين يساريين من مشارب مختلفة، وبعضهم يقيم اليوم تحالفا فعليا في الخطاب مع الاسلام السياسي.

كادت كل ردود الفعل هذه، تجمع على القول بعدم جدوى إصدار هذه الفتوى، تارة بدعوى أن المجلس العلمي الأعلى كان يجدر به ان ينشغل بالفتوى في “القضايا الحقيقية” التي تشغل بال الرأي العام، مثل الرشوة ومحاربة الفساد والاثراء غير المشروع والتفاوتات الاجتماعية والظلم… وتارة أخرى بدعوى ان الأجراء والموظفين هم مساكين يستحقون الزكاة، او انهم يؤدون ضرائب طائلة تقتطع من رواتبهم، وعلى المجلس ان يفتي بالأحرى بأن تلك الضرائب هي نفسها الزكاة المفروضة.

يشترك هذا الإجماع في ملمح واحد هو أن ما يصدر عن المجلس العلمي الأعلى عليه ان يكون بالأحرى صدى لانشغالات التيارات السياسية والإيديولوجية التي ينطلق منها اولئك المنتقدون. وهم بذلك يطلبون من المجلس أن يكون عمله بمثابة تسييس من نوع آخر للدين.

فتوى المجلس العلمي الأعلى تستجيب لحاجة فعلية يستشعرها كثير من المواطنين الأجراء والموظفين الراغبين بصدق لا نملك ان نوبخهم عليه، في تحصين علاقتهم بربهم من خلال التأكد من القيام بأداء إحدى الفرائض الخمس التي في أعناقهم كمسلمين مؤمنين على وجهها الأكمل. وهي حاجة في غاية الجدية بالنسبة لهم. ولا أحد يملك حق استهجانها أو التقليل من أهميتها أو المطالبة بتجاهلها واستبدالها بغيرها من القضايا، التي يخيل لأولئك المعترضين أنها أولى بالأسبقية. وحق المواطنين الراغبين في تدقيق واجبهم الديني، في الحصول على فتوى شرعية مؤصلة وفق ثوابت المذهب المالكي، من مؤسستهم المرجعية في هذا الباب وهي المجلس العلمي الأعلى، حق ثابت ومساو لحقوق من يرون ان المجلس ينبغي ان تكون له أولويات أخرى. ولا أرى ما الذي يزعج المعترضين في هذا الأمر. هناك من اعتبر الفتوى نوعا من الوصاية على هذه الفئة من المواطنين. وهناك من اعتبر المجلس عديم الجدوى لدرجة انه يبرر وجوده والتعويضات التي يتقاضاها أعضاؤه بإصدار هذا النوع من الفتاوى.

ربما نجد بعض التفسير لهذه الموجة من التعبير عن الامتعاض، في كون من عدد ممن يشاركون فيها هم أنفسهم موظفون أو أجراء، أو أحيانا متقاعدون يتقاضون معاشات شهرية تنطبق عليها الأحوال المذكورة في الفتوى. في هذه الحالة، من المفيد ان نذكر بمبدأ أساس في الفتاوى الفقهية هو أنها ليست ملزمة لمن لا يريد التقيد بها، ولا داعي للهلع أو التبرم من صدورها. كما أن القيام بالفرائض الدينية ليس إجباريا لمن لا يريد ذلك، ولا توجد في بلدنا، ولله الحمد، سلطة قهرية ترغم الناس على ذلك. وإنما هو الوازع الذاتي العقدي هو من يدفع الحريصين على أداء فريضة الزكاة إلى البحث عن الكيفية الشرعية الملائمة للقيام بذلك.

وفي المنحى العام، وبغض النظر عن ما سبق، من المفيد ان نستحضر أن من بين مهام المجلس العلمي الأعلى توحيد الفتوى وتأصيلها بخصوص مستجدات حياة المسلمين المغاربة، وفق ما يضمن الأمن الروحي ويحافظ على الوحدة المذهبية ويحمي عموم المؤمنين من الوقوع فريسة للمذاهب والفتاوى الشاذة والمغالية في التطرف المذهبي. كما ان من مهام المجلس أن يذكر الرأي الفقهي بشكل مؤسسي في القضايا التي تطلب منه الدولة إصدار رأي فقهي فيها. كما حصل في موضوع مدونة الأسرة أو موضوع حماية الطفولة أو موضوع “الموت الرحيم” أو التبرع بالأعضاء.

في نظري أن الهجوم على فتوى زكاة أجور الموظفين والأجراء لا مبرر له، سوى إذا كنا نريد أن نقحم المجلس، ومن خلاله الدين، في حلبة التنافس السياسي إرضاء لهذا التوجه الإيديولوجي او ذاك، وتأكيدا على أن “الدين الحقيقي” هو الدين السياسي. أما الدين الوجداني فلا موقع له، ولا أهمية لانتظارات أصحابه.