7 يونيو 2025 / 17:24

في الرد على دعاة القطيعة مع فقه الإمام الشافعي

عبد الإله زيات

أن يخرج علينا من يدعو إلى “تجاوز الشافعي” ليس ترفا فكريا ولا فتوة لغوية، بل هو ارتباك في فهم العلاقة بين النص والواقع، بين الاجتهاد والتراث، بين الزمن والشرع. فالشافعي لم يكن إلها للفقه ولا خاتمة للعقل، لكنه لم يكن مجرد رجل أيضا. هو تأسيس، لا شخص. هو بنية فكرية ومعرفية تشكلت في ظل لحظة مفصلية من تاريخ الإسلام، لحظة سعت إلى ضبط الفوضى وتقييد الهوى وربط الفقه بالأصول. من يتحدث عن تجاوزه يتحدث غالبا دون أن يقرأه، أو يختزله في صورة نمطية يروجها هواة القطيعة باسم التقدم.
الشافعي ليس قاعدة فقهية فقط، بل عقلٌ اجتهادي يربط اللغة بالوحي، ويؤسس لفهم يحمي النص من النزوات. وهو حين قرر بناء علم الأصول، لم يكن يجهل تغير الزمان، بل كان يؤسس أدوات قراءته. فمتى كان الشافعي عائقا أمام التجديد؟ ومتى كان خصما للواقع؟ وهل كل من استشهد بفقه الشافعي اليوم فهمه فعلا، أم أنه استدعى اسمه كقيد بدل أن يقرأ مشروعه كمنهج؟
من ينادي ببديل للفقه الشافعي تحت مسمى “مواجهة العولمة” أو “تجاوز الليبرالية” لا يدرك غالبا أن العولمة ليست فقها ولا فكرا بل حالة من حالات السيطرة الرمزية والاقتصادية، وأن الليبرالية ليست مذهبا أخلاقيا بالضرورة بل أداة توظيف حر للفردانية. مواجهة هذا التغول لا يكون بإلغاء أصولنا بل باستنطاقها من جديد. التجاوز لا يعني الإلغاء، بل التفاعل. ولا يجوز أن نخلط بين الجمود الذي أصاب بعض الفقهاء، وبين المشروع الأصلي لمؤسس علم الأصول،مثلا طه عبد الرحمن، الذي وإن قدم مشروعا أخلاقيا عميقا، إلا أنه أبقى فقه الواقع غائبا عن فلسفته. فهو يحلّق أخلاقيا ولا يهبط تشريعيا، يتحدث عن روح المقاصد دون أن ينحت أداة أصولية تضبط الحكم. محمد شحرور كان أكثر جذرية، فرمى الأصول كلها، واستبدلها بقراءة لغوية منفلتة تدّعي التحديث بينما تهدم المعنى. جعل القياس بدعة، والإجماع ماضيا، والتفسير حرية شخصية، فانتهى إلى فوضى معرفية لا مشروع لها إلا الخروج من النظام لا تأسيس نظام جديد، نصر حامد أبو زيد بدوره اقترب من النص كبنية لغوية، كخطاب تشريعي، وحاول تفكيك المقدس دون أن يُبقي للفقه سلطة سوى التاريخ. لم يقرأ الشافعي إلا كحاجز أمام التنوير، فحوّل الوحي إلى نص متنازع عليه، وترك القارئ في مواجهة التأويل بلا ضوابط. أما حسن حنفي فقد أراد التوفيق بين التراث والتجديد، لكنه أسقط المنهج لصالح الإيديولوجيا، وأراد يسارا إسلاميا بلا عمق أصولي، فاكتفى بإعادة صياغة المصطلحات دون تأسيس آليات استنباطية.
الفقه لا يبدل كما نبدل ثيابنا، ولا يبنى على الانفعال بل على الفهم المتراكم. ومَن يطلب فقها حداثيا منفصلا عن الشافعي عليه أولا أن يبني أصولا بديلة، وأن يؤسس منهجا جديدا لضبط الدليل، وتفسير النص، وربط العلة بالحكم، واللغة بالسياق. وهذا غائب، بل لا يملكه كثير ممن يصرخون بتجاوز الشافعي دون أن يقدموا سوى أحكام منزوعة الجذ كما أن نقد الشافعي لا يجب أن يكون بدافع الهروب من التراث، بل رغبة في استكماله. أما التجاوز الذي يراد منه الهدم فلا يعنينا، لأنه يفرغ العقل من حمولته، ويضعنا تحت وصاية اللحظة، ويجعلنا نتعامل مع النص كما يتعامل الماركسي المتطرف مع الإنسان، لا ككائن متجذر بل كفكرة جاهزة للاستبدال ولأننا لا نواجه التغول العالمي بفقه مشتت، فإننا نحتاج عقل الشافعي لا نسخه، نحتاج منهجه لا تمثاله. فمن لم يقرأ الرسالة ولم يعش فيها، لن يفهم كيف يبنى فكر قادر على مقاومة التبعية. نحن لا نحتاج إلى بديل للشافعي، بل إلى شافعي جديد يقرأ العالم بلغتنا اليوم، لا أن نسلمه لألسنة الاستهزاء ونفرغ الأمة من ذاكرتها بدعوى التجديد.
فقه الشافعي إذاً ليس متحفا ولا نصا جامدا، بل بوابة لإعادة تملك العقل المسلم لمنهجيته، ليصير قادرا على التفاعل مع المفاهيم الكونية دون أن يتحلل فيها، ويعيد بناء موقعه في العالم دون أن يسحق ذاته تحت صدمة الحداثة.
من يريد أن يجدد، فليتفضل، الباب مفتوح، لكن لا يبدأ بالهدم، بل بالبناء، ولا يطالب بتجاوز الشافعي قبل أن يضع حجرا واحدا في تأسيس بديل يملك عمقا علميا، وانضباطا أصوليا، وجرأة فكرية مسؤولة. فالتاريخ لا يرحم الصراخ، بل يحفظ البناء.