تمرسيت حسام الدين
من المفارقات المهمة في عالم الأفكار أن تلتقي وجهات نظرّ المفكرين البارزين حتى ولو اختلفت تخصصاتهم ومجالاتهم العلمية. واحدة من هذه الأمثلة التي يمكن رصدها هي فكرة كارل بولاني حول ميكانيزم التغير في الاجتماع التاريخي، والتي تتناظر مع فكرة ماريو بونجي الابستيمولوجية عن مفهوم وطبيعة التسبيب العلمي.
فيرى بولاني في كتابه”التحول الكبير” أن حركة الاجتماع التاريخي تتحدد كالتالي: تأتي عوامل خارجية كالثورات الكبرى والأزمات الاقتصادية و الاستعمار..الخ تلعب دوراً حاسماً في التغير الاجتماعي المحلي، لكن طبيعة هذا التغير لا يتحدد إلا عبر آليات وقوى داخلية في المجتمع، هي وحدها القادرة على تحديد نوعية الاستجابة للأسباب الخارجية، كالثقافة والنظام السياسي وطبيعة الفرد..الخ.
تتجلى عبقرية كارل بولاني التاريخية بالنظر إلى ما وصلت إليه نتائج فلسفة العلم المعاصرة، خاصة في الدراسة المهمة التي طرحها فيلسوف العلم والباحث الفيزيائي ماريو بونجي في كتابه”السببية و موضع المبدأ السببي في العلوم الحديثة” حيث ينتقد كل من المفهوم الوضعي السلوكي في أنطولوجية التسبيب باختزاله السببية في العوامل الخارجية، وأيضا المفهوم الفطري في اقتصاره على البنية الداخلية.
“إن التحتيم الذاتي الكامل، أي الحرية الكاملة، وهم مثلما أن التسبيب الفاعل(بمعنى الاضطرار الخارجي) غير كاف. أما النموذج الكافي فيقدمه توليف التحتيم الذاتي والتحتيم الخارجي، حيث يتصور فيه الأسباب الخارجية كمحررات لعمليات داخلية وليس كفواعل تقولب كتلاً سلبية. ومن ثم نتجنب مبالغات المذهب البيئي والمذهب الفطري بعواقبهم النسبيةوالمطلقة.”{بونجي،198}.
تساعدنا هذه النتائج على المستوى العربي في تجاوز التفسيرات السطحية للمشاكل الاجتماعية والثقافية العربية، بين من يرجع أسبابها إلى مجرد الأسباب الخارجية ودخول الاستعمار الغربي، ومن يرى أن أسباب التخلف العربي تختزل في عناصر داخلية محضة. وكل من هذه التفسيرات تعجز عن تصور علمي للمشكلة العربية يجمع بين الأسباب والمؤثرات الخارجية وطريقة تفاعل الآليات و العناصر الداخلية، فلو كان الاستعمار الغربي وحده يكفي لفهم التخلف العربي، فكيف نفسر تقدم العديد من الدول والمجتمعات اليوم رغم تعرضها للتدخل الغربي كالصين واليابان؟ ولو كانت الثقافة الدينية التقليدية وحدها هي سبب التخلف العربي، فكيف نفسر مساهمة العديد من الأفكار الدينية في تقدم الكثير من الدول في أروبا وأمريكا الجنوبية بغض النظر على أن الثقافة الدينية نفسها في التاريخ الإسلامي لعبت دوراً محورياً في إزدهار المجتمعات العربية والإسلامية.
بالتالي يجب أن نتمسك بمفهوم علمي للتسبيب والتسبيب الاجتماعي لا يهمل المحددات الذاتية{الداخلية} باعتبارها مصدر التغير والحركة، بعد أن يتم دفعها وتحريرها من طرف الأسباب الخارجية. فالاستعمار الغربي لم يكن سبباً للتخلف الاجتماعي العربي بقدر ما أنه أخرج ودفع مظاهر التخلف داخل المجتمع والثقافة من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل بالمعنى الأرسطي، وأعطاها صورتها الحديثة، وإلا فبذور وأصول التخلف العربي موجودة قبل دخول الاستعمار الغربي بقرون. لهذا يجب علينا أن نبحث وندرس هذه الأصول لنفهم كيف تفاعلت بالأسباب الخارجية وشكلت لنا واقعنا العربي المعاصر اليوم.