محمد علي لعموري
الإنسان إبن بيئته ، كلمة سمعناها من عند أساتذتنا مذ كنا ندرس بالمدرسة في مستوياتها الإعدادية والثانوية ، ووجدناها عند البحاثة في علم الإجتماع يشرحون لنا معناها ودورها في فهم شخصية الإنسان. بل حتى علم النفس الإجتماعي يذهب مذهب السوسيولوجيين في فهم سيكولوجية الإنسان.
مناسبة دخولنا عبر بوابة تلك المقولة للتأسيس لهذه المقالة ، أن الإنسان حين ينشأ في بيئة معينة ذات إطار سوسيوثقافي معين يتشرب تلك الثقافة ويحمل قيمها ومعتقداتها بغثها وسمينها ليصبح جزءا منها تحدد هويته وشخصيته وما يحمله في ذاكرته ومخيلته وقناعاته من أفكار ومعتقدات راسخة في لا وعيه بشكل تبدو معها تلك الأفكار وتلك المعتقدات من المسلمات ومن الطابوهات ( المحرمات ) ومن اليقينيات التي قد تدفعه لقبول أو رفض كل وافد من ثقافة ، وتحدد طبيعة العلاقة التي تجمعه ب”الآخر”.
هذا “الآخر” ذو القيم والثقافة المختلفة هو إنسان كذلك لكنه إنسان مختلف ومتخالف مع “الأنا” فيما تعتقده كحقائق ثابتة ، وقد تحمل ثقافة “الأنا” تمثلات وأحكاما قبلية ضد ” الآخر ” ومنها يتم رفض هذا الأخير ومعاداته أو محاربته..!
الأديان لم تظهر قديما إلا لحاجة البشرية إلى تعاليم توجيهية تحد من غلواء الشر والظلم والإنحرافات البشرية فوق الأرض ، لهذا تم التعالي بالأخلاق لتكتسي بعدا ميتافيزيقيا يتم الإرتفاع بها من حضيض الأفعال المنكرة ذات التأثير السلبي على السير الطبيعي والمعتدل للمجتمعات البشرية القديمة.
ولعبت الأديان دورا خلاصيا ضد قوى الشر وقوى التسلط بإنكار تلك الأفعال وجعلها محرمة وواجبة العقاب الإلهي إن عاجلا أو آجلا.
هكذا تم التأسيس لمنظومة دينية تعبدية (الحاجة إلى التواصل مع المطلق ) ، علائقية ( الحاجة إلى تنظيم العلاقات الإنسانية على الأخلاق والقيم المشتركة ) لعلم قادة الدعوات الدينية من رسل وأنبياء والأولياء… بحاجة الإنسان إلى المطلق وإلى الألوهية وإلى الإشباع الروحي ، وحاجته كذلك إلى شقيقه الإنسان باعتباره كائنا إجتماعيا.
لكن الأديان رغم رسوخها، فقد نأت مع مرور الوقت بمعتنقيها عن جادة الغرض الذي من أجله ظهرت أول مرة ، فبعد انقضاء مرحلة الأنبياء المؤسسين ، سقطت الأديان في يد الأسر الحاكمة توظفها لإضفاء الشرعية على نظام الحكم ، وتأبيد السلطة لتبقى بحوزة جهة معينة ، وهكذا تمت محاربة وتصفية المعارضة باسم الدين ، فارتكبت الفظاعات والجرائم بعد تسويغها بمسميات شتى حتى تكتسي شرعية أخلاقية.
تحولت الأديان إلى إيديولوجيات سياسية بتغليفة دينية ، واستعملتها السلطة الحاكمة مثلما استعملتها المعارضة لمواجهة تلك السلطة القائمة ، وبين هذه وتلك عاشت الأمة تحت نير الإستبداد السياسي والفكر الديني السائد المغلق الذي يملى على الرعية باعتباره فكرا صالحا لكل زمان ومكان لمجرد احتكامه إلى تعاليم الدين وعلى ” كلام الله “.
لم يعد الله ذلك الأقنوم المطلق الذي تلوذ به الذات عند الحاجة للتنفيس عن كربتها وضائقتها ، ولم يعد الله مرجعا للقيم النبيلة كما أريد له أن يكون منذ ظهرت تعاليم الأنبياء تهدي وتصحح وتوجه وتدعو باسمه لعل الناس تتشربه ، فتعود عن غيها إلى جادة الصواب..
أصبح الله بمقتضى الإستبداد وحتى الإستبلاد مصدرا مخيفا تخافه الجماهير بدل أن تحبه وتتقرب إليه ، وذلك بعد أن اختطف ( بضم التاء ) الدين وتم توظيفه كقاعدة خلفية لشن الحروب والتأسيس للعداوة بين الإنسان وشقيقه الإنسان ، وقتل الأبرياء باسم الإله وتسويغ القتل والعذاب والعنف بدعوى الدفاع عن الدين وعن الله !
فهل الله بحاجة لأناس غلاظ شداد قساة لا رحمة في قلوبهم ليدافعوا عنه وليدفعوا عنه الأذى ؟
هل الله ضعيف كي يحتاج بشرا بتلك البشاعة في القول والفعل كي يكون إلها في مكان ما ؟
إن العبث بالدين والتصرف في الدين وفق أغراض طائفية أو مذهبية أو عرقية أو مؤسساتية لهو الإنهيار التام للقيم الإنسانية التي تطورت عبر الزمان لتنتقل من مجرد تعاليم ترعاها الأديان القديمة بالعناية والحراسة اللاهوتية ، إلى مواثيق وإعلانات دولية تؤسس لمرجعية كونية تعود إليها البشرية جمعاء لتوحيد المنظومة الحقوقية رغم اختلاف الثقافات والمواضعات الإجتماعية.
ولهذا كانت الحاجة دوما لتخليص الشرط البشري من قيم تمتح من المحلي وتنفتح على الكوني ، على اعتبار أن الحقوق والقيم المشتركة بين الناس جميعا لا تفسدها المعتقدات المحلية التي كانت قديما قيما مشتركة بين أبناء الوطن الواحد ( منطق القبيلة) لكنها اليوم باتت تقاليد عتيقة تقف عثرة في وجه التقدم نحو توسيع دائرة القيم والحقوق لتشمل كافة الناس بصرف النظر عن ديانتهم ومعتقداتهم وخلفيتهم اللاهوتية…
الإنسان يولد حرا لكنه يتقيد بثقافة تحد من رؤيته الشاملة للحياة لينحصر أفق انتظاره عند ما يتشبع به من قناعات يعدها ؛ دون وعي منه ؛ الحقيقة المطلقة وما عداها هرطقة وكفرا وشيطانا أكبر كما كان يروجه فكر الخميني ضد الثقافة الأمريكية مثلا بكل ما لها وما عليها ، وما تصارعت من أجله الأديان المنتسبة جميعا إلى السماء لتأكيد كل ديانة صواب طرحها ضدا عل طرح الديانة الأخرى ، فنشأت حروب صليبية ، وحرب الإسلام ضد باقي الديانات في إطار الغزوات ، وصراع المذاهب داخل الدين الواحد كصراع السنة مع الشيعة في تاريخ الإسلام ، وصراع الكاثوليك ضد البروتستانت عند المسيحيين… وما تلا ذلك من حروب دينية سادت أوربا قبل النهضة والتنوير وسيادة فلسفة حقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية.
إن الحاجة إلى التدين يجب أن يتحول إلى قناعة فردية شخصية حتى نتجاوز حالة الحرد والتسابق نحو الجهالات باسم الدين نجهز بها على الإنسان كقيمة عليا لا يعلى عليها بعد أن أعلت من مكانته الأديان نفسها. فوفق القصة الشهيرة التي تعتبر الرواية الميتافيزيقية للأديان السماوية ، فإن الله خلق الإنسان وكرمه وجعله خليفته في الأرض ومنحه العقل وعلمه ما لم يعلم لكي يباشر حياته فوق الأرض وفق منطق المسؤولية وحمل الأمانة والتغلب على نوازع الشر بداخله بتربية النفس على حب الآخر والإيثار والتعاون وعمارة الأرض والمضي فوقها على قاعدة ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الآية.
Source : https://dinpresse.net/?p=5903