محمد فؤاد قنديل
الفقيه الغرباوي، وجه صبوح، بأسارير تشع هيبة ووقارا. أكرمه الكريم بالحسنى وزيادة، فاقتطف من رياض المحاسن بديع العلوم، وارتقى فوق كراسي العلم يرشد للصلاح، ولزم المحراب يؤم الناس في أوقات الفلاح.
زرته في بيته العامر بصحبة طيبة، امتنانا له، وإظهارا لمحبة وتقدير نكنها له. استقبلنا على الرحب والسعادة بطلعة بهية، وأكرمنا بالثمر والحليب في حفاوة مرعية.
هو الفقيه سيدي محمد الإدريسي الزوكاري الزرهوني، المزداد سنة 1938، ويرجَّح أن ولادته كانت قبل عامين من هذا التاريخ. لقب بـ”الغرباوي” لملازمته الطويلة لعلماء وفقهاء الغرب، واقترابه الدائم منهم، والتواجد المستمر في حضرتهم. كان والده سيدي العربي من حفاظ كتاب الله، وجده سيدي محمد الزعيم، ووالد جده سيدي قاسم المكنى بالحَاجَة، من الصلحاء الأتقياء، الذين سعوا للخير، فمَنَّ الله عليهم بالنية الطيبة والعمل الصادق والتقوى والورع.
أبحرت في ذاكرة الفقيه الورع، متطلعا لصيد ثمين، يحقق المكاسب لذاكرة المحروسة بالله. بدأت المحاورة، وأعلم أن في سكينة إصغاءه وهدوءه، اختبار لجليسه، وموقف رهيب قد أعيشه. دفعتني الهواجس لأبدي صورة المتزن في أسئلتي، المجتهد في حسن طرحها. يعي الفقيه هذا الشعور، فيبادر بابتسامة، خفيفة محفزة، خشية أن أشْرد أو أتيه بين التوثر والرهبة. ذلك فهم عميق لنفسية المُحاوِر، وخُلقٌ يحمل معاني الاحترام والتقدير من مضَيِّف لضيوفه، ووعي يزكي نبل ما أنا ناو في سبيل حفظ الذاكرة. كذا موقف قد مر منه الفقيه قبل عقود. كان أول درس ديني سيلقيه أمام مريدي مسجد راس الموقف بباب سبتة، فقد ألح عليه شيخه، حين كان طالبا في مرحلة تحصيل العلوم الدينية أن يستأنس بكرسي الواعظ، وكانت التجربة على المحك. ألقى الواعظ المتدرب النظر في الحضور من فوق المقعد، يتحسس الرؤوس، كمن يبحث عن شيئ مفقود. تصادف نظره بمريد يركن في زاوية معزولة وراء الجمع المتحلق للدرس، ملامحه معلومة ومميزة يصعب إخفاؤها أو تجاهلها، فسماتها ظاهرة للعيان.
أمر غير متوقع الحدوث، وورطة لا يدري الطالب الواعظ مخرجا لها، إنه شيخ الجماعة، الفقيه العلامة أحمد بنعبد النبي بمرتبته العلمية وصيته الذي سارت به الركبان وأنصتت لعلمه البلدان، ها هو حاضر في عين المكان. لا شك أن الموقف سيخلق ضغطا رهيبا على المتدرب، ويولد له الارتباك. ترى كيف له أن يلقي درسا في حضرة شيخ الجماعة! وكيف يعلو مقامه فوق الكرسي والعلامة الكبير يفترش الحصير!… فالمقعد ليس مجرد كرسي عادي، إنما رمز لمكانة العالم المرشد الموجه، بل رمز للوراثة النبوية، فالعلماء ورثة الأنبياء. أسئلة حيرت الطالب الفقيه، الذي يعي أن العين لا تعلو فوق الحاجب، فكيف له أن يصير استثناء يخالف القاعدة. لكنه سيركز ما استطاع ويلقى أول درس له، في خطوته الأولى التي ستمتد لألف ميل. انتهى الامتحان، ترى هل يُعزُّ الواعظ أم يهان؟ حمل بلغته مطأطأ نحو الباب خشيةً واحتراما وتحسبا، فنادى عليه العلامة أحمد بنعبد النبي بصوت لطيف ومرن، وبابتسامة تعلو محياه، وحدثه بلغة مهذبة لا تشعر بالإحراج أو الانتقاد، بل بالتحفيز والإرشاد :”هناك أخطاء قليلة سنقومها…”.
قابلني الإمام بسخاء علمي غزير مستعرضا مراحل تعلمه وتعليمه، فالرجل يغرف من بحر عميق للعلوم أخدها عن علماء دين عظام. تواصل الحديث حول سيرته العلمية منذ صباه، فقد كان من رواد قراءة الحزب بالمسجد الأعظم منذ نعومة أظافره. ما لفت انتباه الفقيه محمد المريني، الذي كان حينها إماما لمسجد باب حساين، فسأله، إن كان يدرس النحو. دفع نفي الطفل الفقيه المريني إلى توجيهه صوب الكتبي المعروف بالسوق الكبير، السي النجار، ليمد الطفل بكتاب الأجرومية. من هناك انطلقت مسيرته العلمية على يد الفقيه المريني. فلزم حلقات دورسه بضريح سيدي عبد الله بن حسون، ومسجد باب احساين، حيث أخذ عنه الأجرومية والمرشد المعين وشمائل الترمذي.
ودرس على يد شيخ الجماعة أحمد بنعبد النبي، بمسجد الأشقر، المعروف آنذاك بمسجد القايد البيقونية ومصطلح الحديث وشرح البردة للباجوري، والجمال في شرح الهمزية والجوهر المكنون في البلاغة والسلم في المنطق. كما قد درس في حلقات كراسي العلم بالمسجد الأعظم على يد الفقيه أحمد بنعبد النبي كذلك، ألفية الإمام مالك، ومختصر الخليل بشرح الدردير. وجمع الجوامع في الأصول، وتفسير القرآن بالجلالين، وموطأ الإمام مالك، وسنن أبي داوود. ودرس عنه المختصر في الميراث بالتنكيس. أي بالبداية من الأخير، حيث الفروض، ومنها إلى الفوق.
انتقل الغرباوي ينشر علوم الدين بين أحياء ودروب سلا. فشغل مهمة خطيب الجمعة بمسجد بو قنادل، أواخر السبعينات، لمدة أربعة عشر سنة. وكان التحاقه بالمسجد الأعظم قد بدأ سنة 1996، حيث كان إماما لصلاتي الظهر والعصر والمغرب، ثم ناب في خطبة الجمعة عدة مرات. وكان يلقي الدروس الدينية، أربعة أيام في الأسبوع، في ختم الموطأ، وختم الرسالة، وختم المرشد المعين، والأربعين النووية. كما درَّس بنفس المسجد، تفسير القرآن بالإعراب. وكان يلقي نفس الدروس بالزاوية الغازية.
سهر فقيهنا كذلك على تدريس عدد من طلبة الجامعيين بمقر منزله بالقرب من ضريح سيدي بلعباس. ناقلا الدخائر العلمية الثمينة التي أخذها عن كبار العلماء.
امتاز شيخنا بملكة الحفظ السريع، فقد حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، حيث كان الفقيه قايد الرحى زلو، يخط له ثُمنين على اللوحة، ويمدها للغرباوي للحفظ. وكان يستغرق في حفظ الربع عشرين دقيقة فقط. وقد حفظ الأجرومية في نصف يوم، وحفظ المرشد المعين لابن عاشر في سبعة أيام.
تلكم ومضات من السيرة الذهبية، لإمام المسجد الأعظم سابقا، سيدي محمد الإدريسي الزوكاري، لعلي أساهم بها في تدوين حبات عقد مجوهرة من ذاكرة سلا. وقد تعمدت الاقتصار على سيرته الدينية، دون الخوض في جوانب أخرى، تاركا المجال للباحثين والمهتمين للخوض فيها، توسيعا لدائرة البحث والتنقيب. وأشهد بسيرته الدينية أمام الله جل جلاله، بأن شيخنا من أهل الله المومنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. لن أنسى أبدا جملة قالها لما رجوته بختم اللقاء بالدعاء لنا، فلم يرفع الدعاء بل قال: “لما كانت والدتي رحمها الله في غرغرة الموت، قالت لي، أنت مْرْضي وللي مشى معاك مرضي”. فاللهم متعنا برضاك وأدم نعمة الصحة والعافية على فقيهنا.
ـــــــــــــــــــــــ
رابط صفحة الكاتب على منصة فيسبوك:
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22916