في أنطولوجيا النوبة الضائعة: تفكيرٌ في الزمن والهوية من خلال رواية “غريبة الحسين” لأحمد التوفيق

7 ديسمبر 2025

حمزة مولخنيف
في رواية «غريبة الحسين» يختار أحمد التوفيق أن يدخل التاريخ المغربي لا من بابه السياسي أو العسكري أو الدبلوماسي كما درجت عادة السرديات التي تناولت زمن الحماية، بل من بابٍ بالغ الدقة والحساسية: باب الموسيقى. فالنغمة هنا ليست مجرد خلفية فنية لتزيين الحكاية أو لإضفاء مسحة جمالية على زمن الألم، بل تتحول إلى جهاز معرفي يشتغل كمرآة للتاريخ، وكقناة من قنوات الذاكرة الجماعية، وكجسر بين زمنين: زمن الهوية التي تتآكل تحت وطأة الاستعمار، وزمن الذات التي تحاول أن تكتب نفسها من جديد في خرائط الغربة.

الرواية، كما يوحي عنوانها المركب – نوبة غريبة الحسين – تنبني على التباسٍ دلالي ثري. فـ«النوبة» في الثقافة الموسيقية الأندلسية ليست فقط وحدة لحنية، بل هي دورة وجودية تمثّل انتقالاً من مقام إلى مقام، من حال إلى حال، تمامًا كما ينتقل الإنسان في دورة حياته بين الفقد والحنين والبحث والتجلي.

أما «غريبة الحسين»، فهي من جهة نغمة موسيقية مفقودة يسعى بطل الرواية إلى استعادتها وتدوينها، ومن جهة أخرى استعارة عن الغربة الوجودية التي تلاحق الإنسان المغربي في زمن التحول، حين يفقد صوته الأصيل وسط ضجيج الحداثة الوافدة.

يضعنا التوفيق في قلب فترة تاريخية مفصلية من تاريخ المغرب، حين بدأ الاستعمار يرخي ظلاله الكثيفة على البلاد، فيصير الوعي الجمعي المغربي مهددًا لا فقط في أرضه وحدوده، بل في ذاكرته النغمية.

من هنا يصبح البحث عن «نوبة غريبة الحسين» فعل مقاومة رمزي، مقاومة بالحنين، وبالإيقاع، وبالمحافظة على أثرٍ من آثار الروح المغربية التي كانت الموسيقى الأندلسية أحد أعمدتها الثقافية.

يختار التوفيق، على عادته في الروايات التي تجمع بين التاريخ والروح، أن يشتغل على منطقة الحدود بين الظاهر والباطن: بين الوثيقة التاريخية وبين الإشراقة الصوفية. فالشخصيات في الرواية – رغم واقعيتها الظاهرة – تتحرك في فضاء ملتبس تغمره الرموز، كأنها ليست أفرادًا من لحم ودم، بل أنغام بشرية تبحث عن انسجامها الضائع.

والموسيقى التي تبدو في ظاهرها فناً لترويح النفس، تصبح في عمقها وسيلة لمعرفة الذات، تمامًا كما أن البحث في التاريخ ليس مجرد استرجاع وقائع، بل هو بحث في المعنى الكامن وراءها.

من هذه الزاوية، يمكن القول إن «غريبة الحسين» تنتمي إلى الرواية المعرفية بامتياز، حيث تتحول الحكاية إلى وسيلة للتفكير في ماهية الهوية والذاكرة والزمن. فالرحلة التي يخوضها الراوي – أو بالأحرى الباحث عن النغمة – بين مدينتي تطوان وفاس ليست مجرد تنقل جغرافي، بل هي سفر في الذاكرة المغربية بكل تعقيداتها. تطوان، بما تمثله من رمز أندلسي متجذر في عمق التراث الموسيقي المغربي، تقابلها فاس بوصفها عاصمة العلم والروح والتصوف، وبين المدينتين يمتد خيط نغمي يحاول الراوي التقاطه، كما لو أنه يحاول أن يعيد وصل ما انقطع بين «الروح» و«التاريخ».

إن التوفيق في هذه الرواية يستثمر خلفيته كمؤرخ ومتصوف في الآن ذاته، ليبني نصًا مركبًا يقوم على جدلية الوعي والغياب. فالموسيقى عنده ليست زخرفًا حسّيًا، بل معرفة صامتة تنقل ما لا تقدر اللغة على قوله.

ولذلك لا تشتغل الرواية على مستوى الحدث التقليدي، بل على مستوى الانفعال الداخلي للشخصيات وهي تواجه سؤال الزمن والذاكرة.

وفي هذا المعنى، يبدو أن التوفيق يكتب «التاريخ الروحي للمغرب» أكثر مما يكتب التاريخ المادي له. فبينما تنشغل الروايات التاريخية الكلاسيكية بوصف الوقائع والانتفاضات والصراعات، يذهب هو إلى ما وراء ذلك، إلى ما يحرّك التاريخ من الداخل، إلى ما يشبه النغمة الباطنة للأمة وهي تحاول أن تظل على قيد الحياة رغم التغيرات العاصفة.

إن رواية «غريبة الحسين» يمكن قراءتها، فلسفيًا، بوصفها تأملًا في أنطولوجيا النغمة: النغمة باعتبارها أثرًا للوجود، وباعتبارها مرآة للذات الجماعية. فحين يضيع اللحن، يضيع شيء من هوية الوجود نفسه. ومن هنا نفهم أن البحث عن النوبة الضائعة ليس مجرد هوس موسيقي، بل هو بحث عن معنى الوجود في زمن الضياع.

الرواية تسائل الذاكرة المغربية من خلال الفن، فتطرح سؤالاً جوهريًا: هل يمكن أن نحفظ ذواتنا عبر الجمال؟
وهل الموسيقى، بما تحمله من لا مادية، قادرة على مقاومة المحو الذي يمارسه التاريخ المادي والسياسة؟

يبدو أن التوفيق يجيب عن هذا السؤال سرديًا لا تنظيريًا. فالمسار السردي كله يتخذ شكل بحث وجودي مضنٍ، حيث يطارد الراوي أثرًا نغميًا يتبدد كلما اقترب منه، كأنّ اللحن نفسه يعانده ليبقيه في حالة تيهٍ دائم.

هذا التيه ليس مجرد عَرَضٍ فني، بل هو شرط معرفي: إذ لا سبيل إلى إدراك المعنى إلا عبر ضياعه. وهذا ما يمنح الرواية بعدها الصوفي الواضح، حيث يتحول السعي إلى النوبة إلى سلوك طريق، لا يختلف كثيرًا عن طريق المريد الباحث عن الحقيقة.

في هذا السياق، تستحضر الرواية روح فاس بوصفها فضاءً للتلاقي بين الحرف والنغمة، بين الكتابة والإنشاد. فهي ليست مدينة للحجارة والمعمار، بل مدينة للرموز. وكل من يمر بها لا بد أن يصاب بشيء من فتنتها الغامضة، كما لو أن الزمن فيها يسير على إيقاع نوبة خفية لا يسمعها إلا من صفا قلبه.

ومن جهة أخرى، تحضر تطوان بما هي مرآة للمنفى الأندلسي في المغرب، مدينة عاشت على حافة الحنين، وتحوّلت إلى معزوفة معلقة بين سماء الماضي وأرض الحاضر. وهكذا تتشكل ثنائية فاس/تطوان بوصفها استعارة كبرى لـ«الوطنين»: وطن الذاكرة ووطن الغربة.

من الناحية التاريخية، يستثمر التوفيق حسّه التأريخي ليعيد بناء صورة المغرب تحت الاحتلال، لا من منظور الضحية السياسية، بل من منظور الإنسان الباحث عن نفسه وسط التحولات العنيفة. فبدل أن نرى الجيوش والمعارك، نرى الموسيقيين والفقهاء والمتصوفة، أولئك الذين حفظوا الذاكرة بطرق خفية، عبر القصيدة والموشح والإنشاد.

هنا تتجلى عبقرية الكاتب: إنه يكتب تاريخًا موازيا لا يظهر في كتب المؤرخين، لكنه يترسب في لاوعي الأمة ويؤسس لاستمراريتها الروحية.

وفي المستوى الجمالي، يتجلى أسلوب أحمد التوفيق في هذه الرواية في مزجه بين اللغة العالِمة واللغة الوجدانية، حيث تتقاطع الجملة التاريخية بالعبارة الشعرية، في توازن نادر يذكّرنا بما يسميه عبد الفتاح كيليطو «الكتابة بين لغتين»: لغة التوثيق ولغة الإيحاء. فالتوفيق لا يكتفي بأن يصف العالم، بل ينشده، كما لو أن الكتابة نفسها تصبح نوعًا من الموسيقى المكتوبة.

إن علاقة الرواية بالموسيقى ليست علاقة موضوع بمادة فنية، بل علاقة بنية ببنية. فالسرد نفسه يتحرك وفق إيقاع نغمي، فيه تكرار وتدرج ووقفات تشبه المقامات الموسيقية. والشخصيات تدخل وتخرج من المشهد كما تدخل الآلات الموسيقية وتغيب في أداء جماعي منسجم. حتى اللغة تخضع لنظام من التناوب بين الصمت والكلمة، بين البوح والكتمان، على نحو يجعل النص بأكمله أقرب إلى نوبة سردية مطولة.

بهذا المعنى، تنتمي «غريبة الحسين» إلى ما يمكن تسميته بـالرواية الموسيقية التاريخية، حيث يتم تحويل التاريخ إلى لحنٍ سرديّ، وتحويل الموسيقى إلى وسيلة لفهم التاريخ.

وهذا المزج النادر بين الحقلين يمنح الرواية بعدها الفلسفي، لأنّها تسائل العلاقة بين الفن والوجود، بين الجمال والذاكرة، بين الصوت والصمت.

في خلفية كل ذلك، يظل سؤال الغربة حاضرًا كظلٍ باهتٍ لكنه كثيف: غربة الفرد في زمن التحولات، غربة التراث أمام الحداثة، وغربة الوطن تحت الاستعمار.

ولذلك فالعنوان ليس وصفًا لمقطوعة موسيقية فحسب، بل هو نبوءة وجودية: كل إنسان يحمل في داخله «غريبة الحسين» الخاصة به، تلك النغمة المفقودة التي يسعى إليها طوال حياته دون أن يجدها كاملة.

تتحول الرواية بذلك إلى مرآة للبحث الإنساني الدائم عن الانسجام المفقود. إنّها، في العمق، رواية عن التوق إلى الكمال الضائع، عن تلك الحالة التي وصفها الفلاسفة بأنها حنين الروح إلى موطنها الأول.

وكأنّ التوفيق، من خلال تاريخه وموسيقاه، يعيد صياغة السؤال الفلسفي القديم: كيف يمكن للإنسان أن يبقى وفيًّا لجوهره في عالم يتبدّل إيقاعه؟

هنا تلتقي الرواية بالتجربة الصوفية، لا على مستوى الموضوع فحسب، بل في بنيتها العميقة: فكما أن السالك الصوفي يسير في طريق المجاهدة للوصول إلى النغمة الأصلية التي خُلِق منها الكون، كذلك يسير بطل الرواية في درب البحث عن النوبة الضائعة التي تختزل معنى الوجود المغربي.

يبدو أحمد التوفيق في «غريبة الحسين» كمن يعزف روايته أكثر مما يكتبها. فهو لا يتحدث عن الموسيقى من الخارج، بل يكتب من داخلها، فيجعل من اللغة ذاتها آلةً موسيقية تؤدي دورها ضمن نسيجٍ سرديٍّ متناسق. اللغة عنده ليست أداةً للتوصيل، بل مقامٌ تعبيري تتحول فيه الجملة إلى نغمة، والفكرة إلى إيقاع.

وكأن الكاتب أراد أن يبرهن، عبر البنية الروائية ذاتها، على أنّ الفن قادر على أن يستوعب التاريخ أكثر مما تستوعبه الوقائع.

إنّ السرد في هذه الرواية يتحرك وفق منطق النوبة الأندلسية نفسها: افتتاحٌ ببطء، ثم تصاعدٌ في الإيقاع، فمقامٌ حزينٌ، يليه انفتاحٌ على بهجةٍ خفيفة، ثم خاتمةٌ فيها ما يشبه الانطفاء الهادئ.

هذه الموسيقية الداخلية ليست مجرد تقليدٍ لهيئةٍ فنية، بل هي مجازٌ فلسفيّ عن حركة التاريخ نفسها. فالتاريخ كما يراه التوفيق، لا يسير على خطٍّ مستقيم، بل يتردد، يتكرّر، يتأرجح بين الصعود والانحدار، كما تتأرجح النغمات بين القرار والجواب.

من هذا المنظور، يمكن القول إنّ الرواية تشكّل تجسيدًا فنيًّا لفكرة الزمن الدائري في الثقافة المغربية الصوفية. فكلّ بحثٍ عن الأصل هو عودةٌ إلى نقطةٍ انطلقت منها الرحلة، وكلّ نغمةٍ تُعزفُ إنما تستعيد صدى نغمةٍ سابقة.

وهكذا يغدو البحث عن «نوبة غريبة الحسين» ليس استكشافًا لشيءٍ جديد، بل استرجاعًا لما فُقِدَ في الوعي، ومحاولةً لإعادة الوصل بين حلقاتٍ مقطوعةٍ من الذاكرة الجماعية.

يتّخذ الراوي في هذا السياق دور الباحث في الوجود أكثر مما هو باحث في الموسيقى. رحلته بين فاس وتطوان، بين دفاتر المنسيّين وأصوات الرواة والمغنين، ليست مجرد جمعٍ للوثائق أو تدوينٍ للنصوص، بل هي سفرٌ في معنى الوجود المغربي نفسه. فكلّ لحنٍ يُكتشف، وكلّ مقامٍ يُعاد بناؤه، هو بمثابة خطوةٍ نحو كشف الحقيقة الخفية التي تسكن بين أنقاض التاريخ.

إنّ هذا البعد الأنطولوجي يجعل من التوفيق راوياً ميتافيزيقياً، لا مؤرخاً تقليدياً، لأنّ ما يشغله ليس الماضي في ذاته، بل العلاقة بين الإنسان والزمن، بين الصوت والصمت، بين الذاكرة والنسيان.

ومن زاويةٍ أخرى، تُبرز الرواية الوعي العميق الذي يمتلكه الكاتب بوظيفة الفن في مواجهة الاستعمار. فبينما كانت آلة الاحتلال تُفرغ الأرض من معناها عبر فرض سلطتها على الجغرافيا والسياسة، كان التوفيق يستعيد المعنى من خلال إعادة شحن التراث الموسيقي بالذاكرة.

فالنوبة التي يسعى الراوي إلى تدوينها ليست مجرد أثر فني، بل هي موقع مقاومة رمزية ضد محو الهوية. الموسيقى بما هي لغة اللاجسد، تقف في مواجهة آلةٍ استعمارية مادية، وتعلن أنّ الروح لا تُستعمَر، حتى لو تمّ احتلال الأرض.

يبدو هذا الوعي واضحًا في الطريقة التي يعيد بها التوفيق بناء العلاقة بين التراث والحداثة. فهو لا يقف في موقع الرفض الأعمى لكل ما هو وافد، ولا يقدّس الماضي على نحوٍ متحجّر، بل يحاول أن يقيم بينهما نوعاً من الحوار الداخلي، تمامًا كما يحدث بين المقامات في النوبة الواحدة.

فكلّ مقامٍ يَدينُ بوجوده للمقام الذي سبقه، ويُمهّدُ لما يليه، دون أن يلغي أحدهما الآخر. وهكذا يتأسّس النص على منطق التركيب لا الإقصاء، حيث الماضي والحاضر يعزفان معًا نغمةً واحدةً وإنْ بتردداتٍ مختلفة.

وفي قلب هذا التوتر بين الأزمنة، يقف الراوي بوصفه تجسيدًا لإنسانٍ مغربيٍّ في مرحلةٍ انتقالية: إنسانٍ بين ذاكرةٍ مثقلةٍ بالحنين، وحاضرٍ يفرض عليه أن يتكلم بلغةٍ لم يألفها بعد. من هنا تأتي الغربة التي يُلمّح إليها العنوان.

إنها ليست غربة الجسد، بل غربة الوعي، الغربة التي يعيشها من لا يجد في العالم ما يطابق نغمة ذاته. وفي هذه الغربة، يصبح الفن ملاذًا أخيرًا، والبحث عن النوبة الضائعة يصبح بحثًا عن الانتماء إلى معنى.

على المستوى الجمالي، يمكن أن نلاحظ أنّ التوفيق يكتب بلغةٍ تُوازن بين الاقتصاد والتكثيف. الجملة عنده قصيرة في ظاهرها، لكنها محمّلة بإيحاءٍ كبير، أشبه بضربة عودٍ واحدةٍ تختزن لحناً كاملاً. هذه اللغة المقتصدة تمنح السرد إيقاعًا خاصًا، إيقاعًا بطيئًا متأملاً، يشبه التأمل الصوفي.

فلا شيء في الرواية يجري على عجل، لأنّ الزمن فيها زمنٌ داخلي، زمنُ الإنصات لا زمنُ الحدث. ومن هنا تأتي صعوبة الرواية وجمالها في الآن ذاته: فهي ليست رواية تُقرأ للمتعة الخفيفة، بل تُتأمَّل كما يُستمع إلى قطعة موسيقية طويلة، تتطلّب الصبر والانتباه إلى التدرجات الدقيقة في المعنى والإيقاع.

في هذا الإطار، يحضر الجسد في الرواية لا بوصفه موضوعًا شهوانيًا أو بيولوجيًا، بل بوصفه أداة سماع. فالشخصيات لا ترى فقط، بل تنصت. إنها أجسادٌ تستقبل العالم من خلال الصوت. الصوت هنا هو الحاسة المركزية التي تربط الإنسان بالوجود.

فبينما تقوم الروايات الواقعية على الرؤية والبصر، تقوم «غريبة الحسين» على السمع والإنصات. وهذا التحوّل من ثقافة العين إلى ثقافة الأذن يعكس تحوّلاً فلسفيًّا عميقًا، إذ يُعيد الاعتبار لما هو لا مرئي، لما لا يُقال بل يُشعَر به.

وهذا ما يفسّر كثافة الصمت في الرواية. فالصمت فيها ليس فراغًا، بل هو نغمة من نوع آخر، مقام خفيّ يحتضن ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه. الصمت هو الوجه الآخر للموسيقى، كما أن الغياب هو الوجه الآخر للحضور. في لحظات الصمت التي تملأ النص، يُتيح التوفيق للقارئ أن يسمع ما لا يُقال، أن يدخل في تجاويف الزمن، وأن يشارك الشخصيات تأملها الوجودي.

وإذا كانت الرواية في ظاهرها تحكي رحلة بحثٍ فنية، فإنها في باطنها رحلة في الذات المغربية وهي تحاول أن توازن بين موروثها الأندلسي وصدمتها الحديثة. فتطوان وفاس ليستا مكانين جغرافيين فحسب، بل رمزان لتجربتين وجوديتين: تجربة الذاكرة المنفلتة وتجرِبة الوعي المستيقظ. ففاس هي الحافظة، مدينة العلم والروح، بينما تطوان هي الحنين، مدينة اللجوء والنظر إلى الوراء. ومن بين هاتين القوتين تتولد رواية التوفيق كحوارٍ بين «الذاكرة» و«الحنين»، بين «الحكمة» و«الشجن».

ما يميز التوفيق أيضًا هو أنه لا يُخضع شخصياته لمنطقٍ سرديٍّ ميكانيكي. فالشخصيات عنده أشبه بالأنغام المنفردة التي تتآلف تدريجيًا لتنتج المعنى. كل شخصية تحمل في داخلها «لحنها الخاص»، وحين تجتمع هذه الألحان تتشكل السمفونية الكبرى التي هي الرواية نفسها.

حتى الشخصيات الثانوية – الموسيقيون، المتصوفة، النقاد، الفقهاء – ليست مجرد أدواتٍ لخدمة البطل، بل كلّ واحدٍ منهم يشكّل مرآةً مختلفةً تعكس جانبًا من النغمة الضائعة. وهكذا تتحول الرواية إلى أوركسترا سردية تتقاطع فيها الأصوات، وتتفاعل لتكوّن نغمةً جماعيةً عن المغرب في لحظةٍ تاريخيةٍ متوترة.

من هذا المنظور، يمكن أن نرى أن التوفيق يكتب الرواية كتجسيدٍ لرؤيته الفلسفية للتاريخ: فالتاريخ عنده ليس سلسلة من الوقائع، بل تعدد في الأصوات، وتداخل في النغمات. وهذا التعدد لا يعني الفوضى، بل هو الشرط الضروري لانسجامٍ أعلى، تمامًا كما لا تقوم الموسيقى على نغمةٍ واحدة، بل على اختلافٍ منظمٍ بين النغمات.

هكذا يصوغ التوفيق من خلال السرد نموذجًا معرفيًا مغايرًا للتاريخ، يجعل من الجمال أداةً للفهم، ومن الفن وسيلةً للمقاومة، ومن النغمة مرآةً للهوية.

إنّ الرواية في عمقها دعوةٌ إلى إعادة كتابة التاريخ من داخل الوجدان. فالموسيقى، بما تحمله من شحنةٍ روحية، قادرةٌ على نقل ما تعجز الوثيقة عن قوله. وهي تُظهر أنّ الشعوب لا تُقاس فقط بما تملكه من أراضٍ وجيوش، بل بما تملكه من ألحانٍ تحفظ ذاكرتها

ولعلّ هذه الفكرة هي التي تجعل من «غريبة الحسين» روايةً تأسيسية في مشروع التوفيق الأدبي، الذي يسعى إلى الجمع بين الوعي التاريخي والذوق الجمالي، بين التوثيق والتأمل، بين العقل والوجدان.

وما يُثري الرواية أكثر هو اشتغالها على مفهوم التدوين. فالراوي لا يسعى فقط إلى سماع النغمة بل إلى تدوينها، إلى تحويلها من شفويةٍ إلى كتابة. وهذه النقلة من الصوت إلى الحرف هي نقلةٌ حضارية في حدّ ذاتها. فهي تُحيل إلى قلق الكاتب المغربي المعاصر تجاه العلاقة بين التراث الشفهي والكتابة الحديثة.

وكأنّ التوفيق يقول إنّ ما لم يُدوَّن مهددٌ بالنسيان، وأنّ فعل الكتابة هو نفسه فعل خلاصٍ من الفناء. غير أن الكتابة لا تستطيع أن تنقل النغمة كاملة، لأنّ هناك دائمًا ما يتسرّب منها ويضيع. من هنا يولد التوتر الجوهري في الرواية: التوتر بين ما يُقال وما لا يُقال، بين الذاكرة الحيّة والنص المكتوب.

في هذا التوتر يتأسّس أيضًا البعد الفلسفي للرواية. فكلّ تدوينٍ هو في جوهره نوعٌ من الفقد. حين نكتب اللحن نحبسه في العلامة، ونفقد دفئه الحيّ. وحين نحفظ التاريخ في الكتاب، نفقد رنينه الداخلي. لذلك يبدو الراوي طوال الرواية ممزقًا بين رغبته في حفظ النغمة وخوفه من قتلها بالتدوين.

إنها مفارقة الوعي الجمالي: أن تحاول أن تنقذ الجمال من الزوال، فتصنع منه أثرًا جامدًا. هذه المفارقة هي قلب الرواية الفلسفي، وتكشف عن وعي التوفيق العميق بحدود الكتابة، وبأنّ اللغة مهما بلغت من سحرٍ، لا تستطيع أن تمسك بكامل التجربة الإنسانية.

في نهاية «غريبة الحسين»، لا نجد الجواب الحاسم الذي ينتظره القارئ العادي: هل عُثر على النوبة؟ هل دُوّنت؟
بل إنّ التوفيق يتعمّد أن يُبقي اللحن مُعلّقًا، كما لو أنه لا يريد أن يُغلق الدائرة، بل أن يتركها مفتوحة على أبدية البحث. هذه النهاية الملتبسة ليست ضعفًا سرديًا، بل اختيارٌ فلسفي يعكس رؤية الكاتب للعالم: فالحقيقة ليست شيئًا يُمتلك، بل طريقٌ يُسلك. النغمة التي نبحث عنها ليست في الخارج، بل في داخلنا، وكلّ محاولةٍ لتثبيتها نهائيًا هي خيانةٌ لطبيعتها المتحوّلة.

إنّ الرواية في هذا المعنى، تنتمي إلى ذلك النمط من الأدب الذي يكتب التيه بوصفه معرفة. فالتائه في نص التوفيق لا يضيع عبثًا، بل يكتشف في ضياعه معنى جديدًا للوجود. وتمامًا كما يرى المتصوفة أنّ السلوك إلى الله لا ينتهي بالوصول، بل بالاستمرار في الطلب، فإنّ الراوي في «غريبة الحسين» يدرك في النهاية أنّ النوبة التي يبحث عنها ليست سوى رمزٍ لنغمة الحياة ذاتها: تتبدّل، تُنسى، ثم تُستعاد في شكلٍ آخر.

من هذه الزاوية، يمكن قراءة الرواية كـتأملٍ في فلسفة الذاكرة والنسيان. فالتوفيق يبيّن أن النسيان ليس نقيض الذاكرة، بل شرطها. لأن ما يُنسى هو ما يدفعنا إلى البحث، والبحث هو ما يُبقي الذاكرة حيّة.

فلو كانت النغمة محفوظةً بكاملها، لما كان هناك داعٍ لإعادة اكتشافها، ولما انفتحت الرواية على هذا السفر الطويل بين المدن والأصوات. بهذا المعنى، يتحول النسيان إلى قوة إبداعية، إلى فراغٍ يولّد الرغبة في الامتلاء.

وفي العمق، تبدو «غريبة الحسين» نصًا عن الروح المغربية في لحظة امتحانها الكبرى. فالمغرب، كما تصوّره الرواية، ليس مجرد فضاءٍ جغرافي، بل كائنٌ روحيٌّ يعيش حالةَ مفارقةٍ بين ماضيه المشرق وحاضره المضطرب.

الاستعمار في النص ليس فقط هيمنة سياسية، بل هو اغترابٌ أنطولوجي يُفقد الذات صوتها الخاص. ومن هنا تصبح استعادة النغمة الضائعة استعارةً عن استعادة الصوت الوطنيّ والروحيّ الذي كاد أن يذوب في ضجيج الحداثة الغربية.

بهذه الرؤية، ينتمي التوفيق إلى تقليدٍ مغربيٍّ عميقٍ في الفكر والأدب، حيث يتمّ ربط الهوية بالروح لا بالدم، وبالذاكرة لا بالجغرافيا. إنه يكتب امتدادًا لذلك الخطّ الذي بدأه مفكرون من قبيل الجابري وطه عبد الرحمن والعروي، لكن بلغة الفنّ لا بلغة النظر.

فبينما اشتغل هؤلاء على تفكيك البنية العقلية أو الأيديولوجية للحداثة، اشتغل التوفيق على استعادة الحسّ الجمالي كأفقٍ للهوية. فالمغربيّ عنده لا يكون ذاته إلا حين يعزف نغمة وجوده، أي حين يتحوّل إلى كائنٍ من إنصاتٍ وتأملٍ وتوازن.

وما يُثير الإعجاب في بناء الرواية هو قدرتها على تحويل الميتافيزيقا إلى سرد. فالمفاهيم المجردة – كالذاكرة، والهوية، والزمن، والغربة – لا تُطرح في شكل تنظيرٍ أو خطابٍ مباشر، بل تتجسّد في المشهد والشخصية واللحن. إنّها فلسفة تُقال بالنغمة لا بالمصطلح، وهو ما يجعل الرواية قريبة من الحسّ الجمالي الأندلسي الذي يزاوج بين الفكر والعاطفة، بين الموسيقى والعقل.

من هنا يمكن النظر إلى «غريبة الحسين» بوصفها نوعًا من التمرين الروحي، لا مجرد نصّ أدبي. فهي تدعو القارئ إلى أن يصغي، أن يتباطأ، أن يكتشف المعنى في التفاصيل الصغيرة: في نغمة عودٍ، في حنين مدينةٍ، في حوارٍ عابرٍ بين شخصين يتذكران ما لم يعياه. القراءة نفسها تصبح فعلاً من أفعال الذكر، لأنّها تعيد إنعاش ما طواه النسيان.

ومثلما تُبنى النوبة على مقاماتٍ متتابعة، تُبنى الرواية على مقاماتٍ وجودية: مقام البحث، مقام الشكّ، مقام الكشف، ومقام التسليم. وفي كلّ مقامٍ يتغيّر لحن اللغة، فينتقل من التاريخي إلى الصوفي، ومن الواقعي إلى الرمزي، ومن الصوتي إلى الصامت. هذا التعدّد في النبرات يجعل النصّ مفتوحًا على قراءاتٍ لا تنتهي، كأنه نغمة لا تتوقف عن التحوّل.

على مستوى الصورة، يشتغل التوفيق على جمالية التناقضات. فالمشهد الواحد يجمع بين الضوء والظلّ، بين الحاضر والماضي، بين الحسيّ والروحيّ. إنّه يكتب العالم كنسيجٍ من الأضداد التي لا تلغي بعضها، بل تتكامل لتصنع المعنى.

وهذا بالضبط ما يميّز الحسّ المغربيّ في الفنّ: القدرة على التوفيق بين الواقعي والرمزي، بين الأندلسي والصحراوي، بين الماديّ والمتعالي. التوفيق يترجم هذا المزاج الثقافي في لغةٍ روائيةٍ تمزج بين الوقائع والتأملات، فتبدو الرواية في لحظاتٍ كثيرة وكأنّها نصّ في فلسفة الجمال أكثر منها حكاية.

أما من حيث البناء، فإنّ الرواية لا تتبع منطق الحبكة الخطية، بل منطق التداعي الوجداني. الأحداث تتذكّر نفسها كما يتذكّر الإنسان أحلامه: بتقطّعٍ وغموضٍ وعودةٍ مفاجئةٍ إلى نقطةٍ منسية. هذه التقنية تُقرّب الرواية من البنية الموسيقية القائمة على التكرار والتدرّج. فكلّ عودةٍ في السرد تشبه تكرارَ لحنٍ قديمٍ لكن في مقامٍ جديد، أي أن المعنى يتطوّر دون أن يتنكر لأصله.

في خلفية النصّ، نلمس حضورًا قويًا لفكرة المعرفة عبر الجمال، وهي فكرة مركزية في التصوف الإسلامي كما في الفلسفات الجمالية الحديثة. فالجمال عند التوفيق ليس ترفًا حسّيًا، بل طريقٌ إلى الحقيقة. ولعلّ الموسيقى في الرواية ليست سوى الوجه الملموس لهذا الطريق.

فحين تنصت الشخصيات إلى النوبة، إنما تنصت إلى ترتيب الوجود نفسه، لأنّ العالم في جوهره – كما في الرؤية الصوفية – مكوّن من نغماتٍ متناسقة، والفساد لا يعني إلا اختلال الإيقاع. ومن ثمّ، يصبح إصلاح العالم مرادفًا لاستعادة التناغم، أي لاستعادة «نغمة الحسين» التي هي رمزٌ للانسجام المفقود بين الإنسان والعالم.

هذا الوعي الجمالي يجعل الرواية تتجاوز إطارها المحليّ لتطرح سؤال الإنسان المعاصر في كلّ مكان: كيف يمكننا أن نحافظ على روحنا في عالمٍ ماديٍّ صاخب؟ كيف نسمع صوتنا الداخلي وسط ضجيج التكنولوجيا والسياسة؟ في هذا المعنى، «غريبة الحسين» ليست رواية عن المغرب فقط، بل عن الإنسان الذي فقد نغمة ذاته، وصار يعيش في فوضى الإيقاعات المتنافرة.

من جهةٍ أخرى، يكشف النصّ عن وعيٍ حادٍّ بحدود الحداثة الغربية، التي وإن منحت الإنسان أدوات السيطرة على العالم، فقد انتزعت منه حسّ التوازن الداخلي. فحين انقطعت الثقافة الحديثة عن النغمة وعن الشعر وعن الموسيقى الروحية، دخلت في صمتٍ ميتافيزيقي لا يُحتمل.

والتوفيق من خلال رمزيته الدقيقة، يدعو إلى استعادة الحداثة عبر بوابة الروح، لا عبر رفضها. فهو لا يريد عودةً إلى الماضي، بل يريد تصالحًا جديدًا بين العقل والوجدان، بين العلم والفن، بين الفكرة واللحن.

في هذا السياق، تبدو «غريبة الحسين» أقرب إلى بيانٍ فلسفيٍّ في شكل رواية. فهي تقول إنّ الخلاص لا يأتي من الثورة السياسية وحدها، بل من الثورة الجمالية، من إعادة تربية الذوق والسمع والروح. فالمجتمع الذي يفقد موسيقاه يفقد توازنه، ومن لا يسمع نغمة وجوده يضيع في ضوضاء الآخرين.

إنّ موقع هذه الرواية في الأدب المغربي الحديث يتجاوز حدود التجريب الفني، إلى أن يكون مشروعًا للكتابة الروحية داخل الرواية التاريخية. فبعد عقودٍ من الواقعية الاجتماعية والسياسية، تأتي أعمال أحمد التوفيق لتعيد الاعتبار إلى البعد التأملي في الكتابة، وتفتح الرواية المغربية على فضاءاتٍ رمزيةٍ وميتافيزيقيةٍ نادرة.

وهي بذلك تقف إلى جانب أعمالٍ أخرى من طينة روايات بنسالم حميش وعبد الكريم جويطي، لكنّها تتميّز عنها بإيقاعها الصوفي وباشتغالها على الذاكرة النغمية للمغرب.

إنّ التوفيق، بصفته مؤرخًا وعارفًا بالتصوف، استطاع أن يوفّق بين صرامة الوثيقة ورهافة الذوق. فكلّ صفحةٍ من الرواية تشهد على بحثٍ دؤوبٍ في المصادر التاريخية، لكنها في الوقت نفسه منسوجة بخيطٍ من الشعر الخالص.

هذا المزج بين التاريخ والجمال يمنح النصّ خصوصيته في الأدب العربي، إذ يقدّم نموذجًا لما يمكن أن نسميه «الرواية العارفة»؛ روايةٌ تستمدّ مادتها من التاريخ لكنها تسعى إلى ما وراءه، إلى الجوهر الإنساني العميق الذي يتكرر عبر العصور.

إنّ القيمة الكبرى لـ «غريبة الحسين» تكمن في قدرتها على أن تجعل من الحنين معرفةً، ومن الموسيقى كتابةً، ومن التاريخ روحًا. إنها رواية تُثبت أنّ الفن ليس ترفًا في زمن الأزمات، بل هو اللغة الوحيدة التي يمكن أن تقول ما لا يُقال. فمن خلال الموسيقى، يعيد التوفيق ترتيب العلاقة بين الإنسان وزمنه، ويذكّره بأنّ الذاكرة ليست ما نحمله في عقولنا، بل ما يعزف في أعماقنا دون أن نسمعه بوضوح.

إنّ «غريبة الحسين» عملٌ يزاوج بين التوثيق الروحي والتخييل الفني، بين المعرفة والوجد، بين الذاكرة والبحث. إنها رواية لا تُقرأ بعيوننا فقط، بل تُسمَع بآذان القلب. ففي كلّ صفحةٍ منها نغمةٌ خفية، وفي كلّ سطرٍ سؤالٌ عن المعنى، وفي كلّ صمتٍ وعدٌ بلحنٍ لم يُكتشف بعد.

وهكذا، حين نغلق الرواية، نكتشف أننا لم نقرأ تاريخ المغرب فحسب، بل قرأنا تاريخ أرواحنا في المرآة. فـ«غريبة الحسين» ليست نوبة موسيقية مفقودة، بل هي نحن في غربتنا الدائمة بين ما كنّا عليه، وما نطمح أن نكونه، وبين اللحن الذي ضاع، واللحن الذي ما زال في انتظار من يعزفه من جديد.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...