فلسفة حقوق الإنسان: بين الكونية والخصوصية على ضوء كتاب “لو كان الإله ناشطا حقوقيا”

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس16 نوفمبر 2024آخر تحديث : السبت 16 نوفمبر 2024 - 10:55 مساءً
فلسفة حقوق الإنسان: بين الكونية والخصوصية على ضوء كتاب “لو كان الإله ناشطا حقوقيا”

خديجة منصور
فلسفة حقوق الإنسان من أبرز المواضيع التي أثرت في الفكر الإنساني عبر العصور، فهي موضوع غني ومعقد يعكس تطور المجتمعات البشرية وتطلعاتها نحو العدالة والكرامة،ارتبطت هذه الفلسفة منذ بداياتها بالوجود الإنساني، حيث اهتم الفلاسفة الإغريق، مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، بالإنسان باعتباره محور الكون. تناولوا قضايا العدالة والمواطنة والديمقراطية، وطرحوا أسئلة وجودية ترتب عليها تأسيس مفاهيم أصبحت الأساس الذي بنيت عليه فلسفة حقوق الإنسان.

تأثرت فلسفة حقوق الإنسان خلال العصور الوسطى بالفكر الديني واللاهوتي، حيث كان الدين الإطار الذي تفسر من خلاله العلاقات الإنسانية، فبرز إثر ذلك مفهوم “العدالة الإلهية” كمرجعية أساسية تحدد الحقوق والواجبات، ورغم الطابع الديني السائد آنذاك، إلا أن القيم التي وضعت في تلك المرحلة شكلت جزءا مهما في تطور الفهم الإنساني للعدالة والمساواة.

غير أن العصور الحديثة شهدت تحولا نوعيا نتيجة لبروز الفكر العقلاني، متمثلا في الفلاسفة أمثال جون لوك، جان جاك روسو، وإيمانويل كانط، إذ ركز هؤلاء على الفرد وحرياته، وأكدوا على ضرورة حماية الحقوق الأساسية، فمن جهته دعا لوك إلى حماية الملكية الفردية والحرية الشخصية، ورأى روسو أن العقد الاجتماعي هو السبيل لتحقيق العدالة والمساواة، بينما ركز كانط على كونية حقوق الإنسان، هذه الأفكار شكلت نقلة مع الثورة الفرنسية التي تبنت شعارات الحرية والمساواة، وأسست لمرحلة جديدة من الاعتراف القانوني بحقوق الإنسان.

في إحدى الحصص الدراسية لمادة حقوق الإنسان، اختار لنا الأستاذ كتابا مثيرا للانتباه من حيث عنوانه ومضمونه، وهو كتاب “لو كان الإله ناشطا حقوقيا: نحو لاهوت حقوقي مناهض للهيمنة” للمؤلفه البرتغالي بوافنتورا دي سوسا سانتوس، أثار هذا الكتاب اهتمامي بشكل خاص، ليس فقط بسبب مضمونه الذي يناقش القضايا العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان، بل أيضا لانفتاحه على الثقافة الإيبيرية التي قدمت رؤية فريدة ومختلفة لفهم حقوق الإنسان، يعكس هذا الكتاب أهمية التفاعل الثقافي في صياغة فلسفة حقوقية أكثر شمولية وتنوعا، وهذا ما سأتطرق إليه لاحقا بتفصيل من خلال استعراض فصول الكتاب التي تناولت إشكاليات عميقة حول كونية حقوق الإنسان وعلاقتها بالخصوصيات الثقافية.

ففي القرن العشرين شكل اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 نقطة تحول محورية، إذ وضع هذا الإعلان إطارا قانونيا دوليا يكرس حقوق الإنسان ويؤكد على القيم العالمية “الحرية والمساواة والكرامة، ومع ذلك فإن التطبيق العملي لهذه الحقوق واجه تحديات عديدة، خاصة مع ظهور حركات اجتماعية تدافع عن قضايا محددة. كالحركات النسوية على سبيل المثال، لعبت دورا رئيسيا في تعزيز حقوق المرأة والمطالبة بالمساواة بين الجنسين، في حين دافعت حركات أخرى عن حقوق الأقليات والعمال، مما أدى إلى توسيع نطاق مفهوم حقوق الإنسان ليشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل الحق في التعليم والصحة والعمل.

مع تطور المجتمعات، برزت فكرة كونية حقوق الإنسان التي تدعو إلى وجود حقوق وقيم مشتركة بين جميع البشر، لكن هذه الكونية واجهت انتقادات، حيث اعتبرها البعض أداة لفرض قيم ثقافية غربية على المجتمعات الأخرى، في كتابه ناقش بوافنتورا دي سوسا سانتوس العلاقة بين الكونية والخصوصية، ودعا إلى ضرورة إعادة التفكير في فلسفة حقوق الإنسان بحيث تراعي التنوع الثقافي دون المساس بالقيم الأساسية.

إن تصاعد الحروب والنزاعات العالمية وانتهاكات الحقوق يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل كونية حقوق الإنسان، هل يمكن لهذه الكونية أن تستمر في ظل التحولات السياسية والاجتماعية الراهنة؟ أم أن هناك حاجة إلى إعادة تأسيس هذه الحقوق بطريقة تأخذ في الاعتبار التنوع الثقافي والخصوصيات المحلية؟ يبدو أن الإجابة تكمن في إيجاد توازن بين القيم العالمية واحترام التنوع الثقافي، بحيث تصبح حقوق الإنسان إطارا شاملا يضمن الكرامة للجميع دون تجاهل اختلافاتهم.

تبقى فلسفة حقوق الإنسان هدفا ساميا تسعى البشرية لتحقيقه، ورغم التحديات التي تواجهها تظل هذه الفلسفة أداة أساسية لبناء عالم أكثر عدالة وإنسانية، شرط أن يعاد النظر فيها بشكل يعكس تطورات العصر ويحترم التنوع الثقافي الذي يميز المجتمعات البشرية…..

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.