إجة ازيكي. باحثة من المغرب
يدعي جميل آيدن في كتابه التأريخي لنشوء وتشكّل فكرة “العالم الإسلامي”، أن هذا الأخير كما يشير جيوسياسيا إلى كتلة إسلامية واحدة ومتحدة في مواجهة “العالم المسيحي” لم يعرفه المسلمون إلا بعد القرن التاسع عشر، بسبب انهيار توازن القوى الإمبراطوري وضعف الإمبراطورية العثمانية، وانتشار الإضطهاد ضد الأقليات المسلمة في الهند وآسيا بشكل عام وداخل إمبراطورية هاسبورغ، مع تزايد الخطاب العنصري المعاد للإسلام وكذا المؤيد للاستعمار.
كما يشبه صعود خطاب التوحد الإسلامي لمواجهة هذه الضغوط بصعود حركات الوحدوية الأفريقية Pan-Africanism والآسيوية في نهاية القرن التاسع عشر ضد الاستعمار والعنصريّة ويعتبرهم حركات صاعدة من نفس المنبع، أي كردة فعل على المواجهات بين تلك الشعوب وبين العالم الغربي وحملاته الاستعماريّة على بلدانهم. ويسمي فكرة تحويل الدول الإسلامية وشعوبها المتناثرة إلى كتلة واحدة متجانسة عابرة للحدود القومية والإمبراطورية، بعنصرة الإسلام، أي تحويله لعرق. مثلما جعل الأفريكان عرقهم الأفريقي سبيلاً للتوحد.
ويفرق هنا آيدن بين مفهوم” الأمة” الذي يعترف آيدين بأقدميته داخل التراث الإسلامي ، وبين مفهوم “العالم الإسلامي” الحادث، والذي كان نتيجة خطيرة لخطاب استشراقي ضد الدين الإسلاميّ بحسب زعمه. فمفهوم الأمة لم يكن يهدف لتحويل المسلمين لكيان جيوسياسي موحد، وإنما كان يعني الرابط الروحي والديني الذي يربط المسلمين ببعضهم البعض، كما يرتبط المسيحيون ببعضهم البفي الكنائس.
وعلى الرغم من أن جميل يدَّعي أن طرحه يتحدي الأطروحة الكلاسيكية التي ترجع أصول وجذور فكرة العالم الإسلامي لتراث إسلامي امتد لقرون طويلة سابقة أصل لفكرة الخلافة باعتبارها نظام الحكم الجامع وغيرها من المفاهيم كداري الإيمان والكفر، إلا أنك تتفاجئ بأن كل ما يقدمه هو أن يقول إنه لا يأخذ بهذه الأطروحة، ويشرع مباشرة في كتابة تاريخ جديد للمسلمين وعلاقتهم بالغرب لا تبدأ إلا مع الخلافة العثمانية، وكأنهم هم من اخترع مفهوم الخلافة، ولا يكلف نفسه حتى عناء دراسة مقالات الفقهاء السابقين في تأصيل مفاهيم كالأمة وغيرها والتي تعد مفاهيما جوهرية في بحثه.
والأدهى من ذلك تجاهله لتاريخ طويل من مواجهات المسلمين مع الغرب كحضارات وديانات أيضًا قبل صعود الإمبراطورية العثمانية، كتجربة الحروب الصليبية مثلا وحروب العباسييين مع البيزنطييّن. وحديثه بعد ذلك عن المسلمين وكأن فكرة الاتحاد ضد الغرب المسيحي لم تأتيهم إلا بعد الحرب العالمية الأولى، وكأن وعي المسلمين تجاه الآخر لم يتكون إلا بعد الخلافة العثمانية، في الكتاب مركزية شديدة للعثمانيين، وإغفال تام لتراث وتاريخ إسلامي يمتد لقرون سابقة وسابقة.
لا أدري هل لكون الباحث تركي وأكاديمي يعيش بالغرب علاقة بهذا الأمر، لكن بالتأكيد هناك تحيز واضح للقراءة الغربية في دراسة تاريخ المسلمين، ورغبة عميقة في قراءة التاريخ الإسلامي بنبرة التبرؤ، وكأن جميل في معركة لتصفية التاريخ الإسلامي مما يسميه اتهامات المستشرقين والغرب، لكن يبدو أنه يعيد إنتاج أطاريح تفتقر للدقة التاريخية.
يختزل جميل آيدن مفهوم “العالم الإسلامي” في معنى سياسي ذي نكهة يسارية غير خافية، دوره الوحيد هو محاربة الإمبريالية والعنصرية الغربية، لكن هذا يفرغ المفهوم من محتواه العقائدي والديني أيضًا، ويجعله مجرد حركة سياسية مؤقتة، منقطعا عن أصوله اللاهوتية والفقهيّة.
لقد قدّم آيدن في كتابه أمثلة عديدة على تذبذبات الأمة والعالم الإسلامي في مواجهة التحديات الجيوسياسية خلال الحرب العالمية الأولى، وأظهر بوضوح أن فكرة الأمة الإسلاميّة في تلك الحقبة لم تكن بالشكل المثالي التي يتصوره معظم المسلمين اليوم، فإستطنبول لم تهب لنجدة ونصرة سلطنة هندية مسلمة على وشك أن يتم غزوها من قبل البريطانيين، والمسلمون حاربوا بعضهم البعض وتحالفوا ضد بعضهم البعض قبل سقوط الامبراطورية العثمانية، ولم يكن مفهوم الأمة بالتالي قيد التطبيق دائمًا، إذ كثيرا ما تم تقديم المصالح السياسية والشخصيّة على الولاء الدينيّ. وهذه الأمثلة جيدة لتقدم صورة متوازنة لتاريخنا، لكنها ليست دليلاً مقنعا على عدم وجود شيء اسمه “العالم الإسلاميّ” حتى لو كان صوريًّا أو تم استخدامه بشكل تكتيكي من قبل الحكام والسلاطين المسلمين في فترات مختلفة. إذ النصوص الدينية والتأصيل الفقهي السابق يدحض بوضوح مقَالة آيدن.
يذكر الكاتب أيضًا أن تلك الأمثلة التاريخية تغير شيئا من فكرة شائعة مفادها، أن العالم الإسلامي كان متحدا حتى جاء الاستعمار فمزقه. صحيح أن العالم الإسلامي عانى من تمزقات وفترات مد وجزر في فترات سابقة بقرون، إلا أنه لا يمكن إنكار دور الاستعمار الجوهري في صناعة الوضع الحاليّ.
يمكن أن نعتبر كتابه، مؤلفا جيدا في تقديم صورة متوازنة وغير مطروقة كثيرا في الدراسات التاريخية عن العالم الإسلامي في فترة سياسية محتدمة، لكنه يفشل في الدفاع عن أطروحته بشكل مقنع.
رابط صفحة الباحثة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/share/18uZDc9FKC/